فتحية الجديدي
قصدت مكان عملي في أحد الصباحات الصيفية، وأمضيت وقتاً لا بأس به أبحث عن مكان أصف فيه سيارتي التي أعانقها كل صباح – وحتى في يوم راحتي، لا أجوب بها الأماكن بل أحادثها وتحادثني.
تعودت على سيارتي الصغيرة – ألفتها وألفت معها أماكن موجودة ضمن خارطة معدلة أهم ملامحها البحر والطريق والناس ، وكنت أستمع للحصص الصباحية ببعض الإذاعات المحلية حتى شاهدت نموذجًا لرجل كبير في السن يمشي أمامي وهو يتكيء على عصاه الخشبية، يمضي بخطوات شبه متسارعة ويحمل معه لهفة الصباح محفوف بمسؤوليات تظهر من خلال خطواته كأنه يسابق الوقت لجلب مقتضيات أسرته وعبء الزمن يثقل كاهله.
بدأ كصورة متأخرة لأبي الذي رحل باكرًا ولم يصل لهذا العمر، حيث غادر دنيانا وأضحى علامة فارقة في قلبي ، لم يشبع منه فؤادي وأنا أتذكر يده الممتلئة بأصابعها المكتنزة، عندما كنت أشبك أصابعي الصغيرة بيده التي حملت عندي خصوصية في ملمحها وتكوينها من خلال خطوطها وتعاريجها وإيقاعها الحسي، وتذكرت عندما كان يشدني بقوة ليقطع بي الطريق خوفًا أن أتراجع عنه ونحن نسير معًا إلى ذلك المكان المبتهج الذي بات مهجورًا، بعد أن تحول إلى ممر للمشاة مسيّج بإطلالة على برج أبو ليلة.
خرست الأصوات من حولي وانطفأ المذياع وسرعان ما تأججت داخلي نيران الفقد المؤقتة من خلال استحضار صورة أبي الذي ترك شرخًا لدى صبية حملت على عاتقها مسؤولية مضاعفة أن تتعامل مع مفردات الحياة .
كما يجب وأن لا تتعدى حدود الخسارة الذاتية والأذى، وأن تحمل أحلامها إلى أماكن صحيحة وتتفرد بكونها بنت ذاك الرجل الذي صنعته قسوة الحياة ، هنيئًا لي بوالدي الرجل غير المكترث بمصاعب الدنيا وصانع الإنسانية التي شعرت بها وأنا أراقب المسن عبر مرآة سيارتي – حتى اختفى وكأن الطريق ابتلعته – وما كان حضوره إلا أن يذكرني كم أنا محظوظة بأنني ابنة شخصية ارتقت بصيغتها حتى بلغت منها ما يميزها عن الآخرين، وأهم ما غرسه فيّ أنني لا أحمل كرًها أو ضغينة لأحد، بل أراهما تغوّلًا بشريًا وهذه ليست عناويني .
شكرا أبي وأنت أيها المار أمامي تصحبك السلامة وجعلك لأسرتك فرحاً.