منصة الصباح

موسم الهجرة إلى الشمال: الحدّ بين الواقع والحلم.

بقلم /محمد الهادي الجزيري

العالمُ ضاق بي وبكم…
هذا ما أراه…
يبدو لي أنّ الكرة الأرضيّة تلفظ من عليها، والأدلّة على ذلك أكثر من أن أعدّها وأحصيها…
حسنًا، ما دمت مغاربيًّا، فسأبدأ من هذه الرّقعة الجغرافيّة الّتي أنتمي إليها. تابعت على شاشة التّلفاز جنونَ الشّباب المغربيّ ومحاولته عبور البحر بأيّة طريقةٍ، كانت الفوضى عارمة، شباب مُتعلّقون بسياج على شاطئ البحر، سياج يفصل ويحدّ الحُلم عن الواقع…
في هذه الهجرة غير النظاميّة اللّعينة الّتي تلاحق شبابنا، وتتسبّب في مزيدٍ من الحزن والفقد لعائلاتنا، رأيت غلامًا يحاول عبور البحر على لوحٍ بلاستيكيّ، وحين يقترب من الحائط الفاصل بين ما يظنّه جنّةً وما يحرقه من نار الواقع يتخلّص من هذا اللّوح ويسبح بسرعة آملًا بلوغ غايته، غير أنّ حرس الحدود يعترضونه ويلقون عليه القبض، فينهار جالسًا على ركبتيه ومنخرطًا في لطم ونواح مُؤلمٍ ومُحزن.
أستحضر في هذا السّياق مقولةً صغتها سابقًا وقلتها في إحدى قصائدي، وهي ” خائن من لم يجن”، إذ أظنّ أنّنا هربنا جميعًا من الجنون، فتخليّنا عن الإنسان ونفذ مخزون الأمل والحلم لدينا، فصرنا نُطبِّع مع الأمر الواقع، ونقبله كأنّه حقيقة لا يمكننا حتّى التّفكير في تغييرها.
صارت الحدود أسلاكًا شائكة تمزِّق أجساد وأحلام سكّان العام الثّالث المغبون، أسلاكًا يكهربها تجّار البشر والأرض والمادّة، وأعتقد أنّ ارتفاع وتيرة الهجرة غير النظاميّة يُعدّ مثل صفّارات إنذار لما يمكن أن يحدث في المستقبل القريب، وها نحن عاجزون عن معرفة ما يُخفي عنّا غدنا المتأزّم…

أمرّ إلى جرحي المفتوح… إلى تونس المغدورة من قبل أبنائها قبل أعدائها… فبعد انتهائنا من أسراب المهاجرين في خدمة الدّين وجهاد المشركين في بقاع العالم… وعودة نسائنا محمّلات بثمار جهاد النكاح الّذي ما أنزل به الله سلطانا… تفاقمت لدينا موضة الهجرة إلى الشّمال عبر المتوسّط، فازداد عدد قوارب الصّيد المحمّلة ببناتنا وأبنائنا الرّاغبين في العمل والعيش الكريم، لقد فقد شبابنا الأمل في مطمورة روما وصار يحلمُ بالوصول إلى روما.
تبثّ إذاعات وتلفزات وطنيّة وعربيّة بشكلٍ يوميّ أخبارَ مجموعات (من ضمنها عائلات) فسخت عقد الحبّ بينها وبين تونس، وسلّمت مصيرها إلى مياه البحر الهادرة، راهنت على كلّ ما تملك من أجل النجاة من محرقة الوطن والظفر بحياة أفضل، يُحترم فيها الإنسان كإنسان ولا يقضّي عمره على الهامش. منذ عشر سنوات والشّعب يجوع كلّ يوم أكثر، ومسلسل الغبن والفقر والظلم مازال متواصلًا، وها نحنُ نشاهد عاجزين أمّهات تنحن على أولادٍ فُقدوا، وآباء يبكون أحبّةً أكلهم البحر…

أسافر بعقلي وقلبي إلى حضن كبير لي وللعرب… أقصد ليبيا الحبيبة الّتي عانت كثيرًا طيلة عشر سنوات من صراع من أجل السّلطة، والحمد لله أنّ الإخوة استهلوا الخطوات الأولى للصلح والبناء والازدهار، ومع ذلك ثمة هجرات منظمة تحدّث عنها القريب والبعيد، هجرات تخصّ جنسيّات افريقيّة مثل النيجر والمالي وغيرهما… وهذه الهجرات تستعمل ضفّة البحر المتوسّط “لتصدير” الأرواح البشرية مقابل المال، تمامًا مثلما يفعله التونسيّون في هذه الفترة الزمنيّة الموجعة.
كم غرقت سفن محمّلة بالنّاس الأبرياء؟ كم أمًّا بكت؟ كم حلمًا غرق في المتوسّط؟ كم ظلمًا حدث؟ وهل سيأتي اليوم الّذي يعيش فيه أبناؤنا وبناتنا بيننا دون التّفكير في وهم أوروبا؟ دون التّفكير في الهجرة إلى الشّمال؟ ترى متى سينتهي هذا “الموسم” يا الطيّب صالح؟ وهل سينتهي أصلًا؟ هل سنكون آمنين وسعداء بأنفسنا وبما لدينا؟ هل سنُعمِّر أرضنا ومنها ننطلقُ في تأثيث علاقات مع بقيّة شعوب العالم أم أنّنا سنظلّ تائهين دومًا، باحثين في أرضِ الغرب عن أوطانٍ تحتوينا؟

شاهد أيضاً

الطب الأعمى

في العقدين الأخيرين حدث تطور تقني وتكنولوجي طبي كبير، ساهم في إبصار الطب، وأصبح التشخيص …