عمق
بقلم /علي المقرحي
كان المرض ( وقى الله الجميع ) أحد الأسباب التي حولت أميراً هندياً يدين بالبراهمية ويدعى ( سيدهارتا ) إلى ( بوذا ) وذلك بأن ملأت عليه فكره ودعته إلى التخلي عن ولايتة العهد في مملكة والده الملك الذي كان يعده لخلافته ، وليس ذلك وحده بل ترك أسرته إذ كان قد تزوج ورُزق بطفل ، تخلى عن ذلك كله ، وتركه وراءه متوجها إلى الغابة ومنقطعاً إلى التأمل في واقع الحياة والعالم ، ومتصارعاً مع الأسئلة التي كانت تتمخض عنها ملاحظاته وتأملاته ، والتي تتمحور في مجملها حول إمكانية خلاص الانسان مما ينغص عليه حياته ويفسد أفراحه ويسلبه راحته مثل الألم والشيخوخة والمرض والموت ، وحول كيفية تحقيق ذلك الخلاص إن يكن ممكناً . وظل منقطعا إلى شاغله ذاك حتى جاءته الاستنارة في واحد من تأملاته ، وأصبح ( بوذا ) أي مستنيراً وفق عقائد قومه الذين كانوا يدينون بالبراهمانية ، وكالعادة أصبحت أعداد من البشر تلتحق به ليتتلمذوا عليه ويصيروا مريدين له وأتباعاً ، ولم يفت إولئك التلاميذ والأتباع والمريدين أن يتحدثوا بقصته وأن يذيعوها في كل الإرجاء ، مصحّفة ومخضبة بكل ما تمخضت عنه مشاعرهم وأفكارهم ، وما أضافه خيال كل منهم من زخارف نمنمات ، لكن لم تخرج تلك الصيغ عن نسقها العام ولا هي انحرفت عن الهدف الذي سعت إليه ، أي اكبار ذلك المتأمل واحترامه ، بل وتقديسه وحتى تأليهه عند بعض الراديكاليين من أولئك الأتباع . ولكن لأنه لا بوذا ولا فلسفته ، موضوع حديثنا هذا ، فسنتركه ذلك كله هنا ، لنكتفي بقول أن المرض ليس شراً كله ، ولا هو سلبي بالمطلق ، وما من في أن كثيرين من يعرفون ، إن لم نعرف كلنا أن هناك من الناس قد لا يحتاج إلى التلقيح للتحصن من مرض ما ، وذلك لأنه سبق له أن أصيب بذلك المرض في مرحلة سابقة من حياته وشفي منه ليكتسب جسمه من بعدها حصانه ضد ذلك المرض ، وهذا مثال على أن المرض مثله مثل كل الموجودات المستقلة بذواتها عن غيرها ، أو الناتجة عن ممارسات تلك الموجودات وعلاقاتها بعضها ببعض والتفاعلات القائمة فيما بينها ، لا تجسد شراً مطلقاً ولا خيراً مطلقاً فالخير والشر كما السلب والإيجاب لكل من موجودات عالمنا نصيب منها ، وإذا كنا نحن اليبيون في مجموعنا وفي الوقت نفسه كل منا على حدة نقف مثلما يقف كل آدمي آخر على امتداد رقعة عالمنا في مواجهة وباء طاريء ( حديث أو مستحدث ) لافارق مهم ، بل الفارق المهم فعلاً والجدير بأن نلتفت إليه هو فارق الموقف ، أو بدقة أكثر فارق المواقف التي نتخذها إزاء أمر طاريء ولا يخلو من تهديد حقيقي لوجودنا نفسه ، وذلك كاف لأن يثير الجزع والرعب ، ويربك الإنسان ، خصوصا وأن الغموض يكتنف التهديد الذي نقف بإزاءه ، إضافة إلى ما يحيطه من تضارب الأنباء التي تتناوله وتروج حوله ، والتي ليست بريئة بالتإكيد من أثر ذلك الغموض فيما تضيفه من تنميق يغلب عليه التهويل والمبالغة ، وبما يتمخض عنه ارتعاب البعض واضطراب مخيلاتهم ، وحتى نواياهم وهواجسهم . كل ذلك لابد من أن يكون مؤثرا وبقوة ، خصوصاً على مجتمع فرضت عليه ولعقود متواصلة أصناف من التسلط والقمع والحرمان والخداع ، وأخضع لمناهج من الإملاء الغبي والتلقين القسري بهدف تدجينه وتحويله إلى ترس في آلة صماء هدفها طحنه وتذريته مع الريح.
،