منصة الصباح

وكرمتها‭ ‬منغوليا

دفق
بقلم /سعاد‭ ‬الوحيدي

في‭ ‬نهايات‭ ‬2011‭ ‬تلقت‭ ‬السفارة‭ ‬الليبية‭ ‬بباريس‭ ‬رسالة‭ ‬رسمية‭ (‬بأختام‭ ‬المركز‭ ‬القومي‭ ‬للبحوث‭ ‬العلمية‭ ‬الفرنسي‭)‬،‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬البرفسورة‭ ‬‮«‬فرانسواز‭ ‬أوبان‮»‬،‭ ‬عملاقة‭ ‬الدراسات‭ ‬الصينية،‭ ‬ومديرة‭ ‬الأبحاث‭ ‬بالمركز‭. ‬مفادها‭ ‬حيرة‭ ‬كبيرة‭ ‬بشأن‭ ‬تغيبي‭ ‬المقلق‭ ‬وانقطاع‭ ‬اخباري‭ ‬عن‭ ‬الفريق،‭ ‬وذلك‭ ‬منذ‭ ‬تركي‭ ‬لباريس‭ ‬للإلتحاق‭ ‬بالثورة‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭. ‬وحيث‭ ‬تشدد‭: ‬‮«‬إن‭ ‬هي‭ ‬سقطت‭ ‬قتيلة،‭ ‬فنحن‭ ‬نطالب‭ ‬برفاتها‭. ‬لأننا‭ ‬أولى‭ ‬بدفنها‭ ‬وتكريم‭ ‬وداعها،‭ ‬وقد‭ ‬أعطت‭ ‬للبحث‭ ‬العلمي‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬الكثير‮»‬‭. ‬الذي‭ ‬استلم‭ ‬الرسالة‭ ‬في‭ ‬حينها‭ ‬كان‭ ‬سعادة‭ ‬السفير‭ ‬‮«‬الشيباني‭ ‬همود‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬اخبرني‭ ‬بهذه‭ ‬التفاصيل‭ ‬عندما‭ ‬التقيت‭ ‬به‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭.. ‬وهي‭ ‬الرسالة‭ ‬التي‭ ‬اعتبرها‭ ‬دون‭ ‬شك،‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬تحصلت‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬شهادات،‭ ‬إنها‭ ‬تتعلق‭ ‬بالوفاء‭ ‬وتقدير‭ ‬العطاء‭.‬
‭ ‬العام‭ ‬الماضي‭ ‬وافت‭ ‬المنية‭ ‬فرانسواز‭ ‬أوبان،‭ ‬وقد‭ ‬واريتها‭ ‬التراب‭ ‬مع‭ ‬قطعة‭ ‬من‭ ‬قلبي‭. ‬ولم‭ ‬أتمكن‭ ‬حتى‭ ‬الساعة‭ ‬من‭ ‬التصالح‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬الفقد،‭ ‬لمرشدة‭ ‬وملهمة،‭ ‬ورفيقة‭ ‬نضال‭ ‬يصعب‭ ‬تعويضها‭. ‬هذه‭ ‬التي‭ ‬أخذت‭ ‬عنها‭ ‬الكثير‭ ‬جداً،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬بشأن‭ ‬‮«‬الاسلام‭ ‬في‭ ‬الصين‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬دهاليز‭ ‬المخزون‭ ‬الخرافي‭ ‬لإرث‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬المعجزة‭. ‬ولكن،‭ ‬وبالأخص،‭ ‬كيف‭ ‬يكون‭ ‬التواضع‭ ‬شيمة‭ ‬كبرى‭ ‬للعظماء‭. ‬كنت‭ ‬باحثة‭ ‬صغيرة‭ ‬عندما‭ ‬التحقت‭ ‬بفريق‭ ‬أوبان‭ ‬حول‭ ‬‮«‬الاسلام‭ ‬في‭ ‬الصين‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬وصلت‭ ‬شهرته‭ ‬العلمية‭ ‬اصقاع‭ ‬الأرض‭. ‬وكان‭ ‬خبراء‭ ‬المضمار‭ ‬يحجون‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬باريس،‭ ‬للأخذ‭ ‬عنها‭ ‬رغم‭ ‬طبعها‭ ‬الصعب‭ (‬والذي‭ ‬زاده‭ ‬ضراوة‭ ‬كونها‭ ‬مقعدة،‭ ‬وعلى‭ ‬كرسي‭ ‬متحرك‭). ‬وكان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬يطبع‭ ‬تواصلي‭ ‬معها‭ ‬رسمية‭ ‬التقدير‭. ‬لكنها،‭ ‬وكلما‭ ‬ناديتها‭ ‬‮«‬مدام‭ ‬أوبان‮»‬،‭ ‬كانت‭ ‬تقاطعني‭ ‬بحدة‭ : ‬اسمي‭ ‬فرانسواز‭. (‬لإسكاتي‭ ‬عن‭ ‬توظيف‭ ‬الألقاب‭)‬،‭ ‬الامر‭ ‬الذي‭ ‬أربكني‭ ‬حينها‭ ‬كثيرا،‭ ‬وصرت‭ ‬اخترع‭ ‬اساليباً‭ ‬في‭ ‬التخاطب‭ ‬معها،‭ ‬تشبه‭ ‬مسارات‭ ‬إبراهيم‭ ‬النظام‭ ‬المعتزلي،‭ ‬لتجنب‭ ‬حرف‭ ‬الراء‭. ‬
ولعل‭ ‬وجعي،‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬فقدها،‭ ‬كان‭ ‬لفشلي‭ ‬في‭ ‬إقناع‭ ‬المسلمين‭ ‬بتكريمها‭ ‬وهي‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭. ‬أن‭ ‬يحتفوا‭ ‬بمنجز‭ ‬سيدة‭ ‬إنتصرت‭ ‬لقضية‭ ‬من‭ ‬أعقد،‭ ‬وأصعب‭ ‬قضايا‭ ‬المسلمين‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬وهي‭ ‬قضية‭ ‬‮«‬مسلمي‭ ‬الصين‮»‬‭. ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬كلفها‭ ‬منع‭ ‬السلطات‭ ‬الصينية‭  ‬لها‭ ‬من‭ ‬دخول‭ ‬البلاد،‭ ‬واضطرت‭ ‬للمكوث‭ ‬في‭ ‬أراضي‭ ‬منغوليا‭ ‬المتاخمة،‭ ‬لمواصلة‭ ‬أبحاثها‭ ‬عن‭ ‬بعد‭. ‬في‭ ‬منغوليا‭ ‬وبحكم‭ ‬شغفها‭ ‬البحثي‭ ‬تعلمت‭ ‬لغة‭ ‬القوم،‭ ‬وأنجزت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأبحاث‭ ‬عن‭ ‬الإرث‭ ‬المنغولي‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬قدمته‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال،‭ ‬يُعد‭ ‬أمراً‭ ‬جانبياً‭ ‬وجزئياً،‭ ‬بالقياس‭ ‬لأعمالها‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الاسلام‭ ‬في‭ ‬الصين‮»‬‭. ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬التكريم‭ ‬‮«‬الإمبراطوري‮»‬‭ ‬لهذه‭ ‬السيدة‭ ‬العملاقة،‭ ‬سيأتي‭ ‬من‭ ‬منغوليا،‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬أية‭ ‬جهة،‭ ‬أو‭ ‬بلد‭ ‬إسلامي‭.‬
حيث‭ ‬اصدر‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬‮«‬مندسايخاني‭ ‬أنخسايخان‮»‬،‭ ‬مرسوماً‭ ‬يقضي‭ ‬بتقليد‭ ‬‮«‬فرانسواز‭ ‬أوبان‮»‬‭ ‬أعلى‭ ‬أوسمة‭ ‬منغوليا‭. ‬وهو‭ ‬لم‭ ‬يطلب‭ ‬منها‭ ‬أن‭ ‬تأتي‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬أولان‭ ‬باتور‮»‬‭ ‬عاصمة‭ ‬البلد،‭ ‬بل‭ ‬أرسل‭ ‬إليها‭ ‬وفداً‭ ‬رسميا‭ ‬يقلدها‭ ‬في‭ ‬دارها‭ ‬هذا‭ ‬الوسام‭. ‬وقد‭ ‬شرفتني‭ ‬فرانسواز‭ ‬بأن‭ ‬أكون‭ ‬إلى‭ ‬يمينها‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المناسبة،‭ ‬التي‭ ‬أسست‭ ‬لحدث‭ ‬سيادي‭ ‬يحمل‭ ‬دلالة‭ ‬مهمة‭  ‬للمنغول،‭ ‬تجاه‭ ‬عالمة‭ ‬فرنسية‭ ‬توقفت‭ ‬لبرهة‭ ‬للإهتمام‭ ‬بتاريخهم،‭ ‬ورسم‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬سطور‭ ‬حضارتهم‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬العالم‭. ‬وبكيت‭ ‬يومها،‭ ‬فرحة‭ ‬لتكريم‭ ‬هذا‭ ‬الهرم‭ ‬العلمي‭ ‬في‭ ‬حياتها،‭ ‬وحسرة‭ ‬لأن‭ ‬هذا‭ ‬لم‭ ‬يأت‭ ‬من‭ ‬بلد‭ ‬عربي‭/ ‬او‭ ‬إسلامي‭.‬
نحتت‭ ‬فرانسواز‭ ‬أوبان‭  ‬تعبير‭ ‬‮«‬الصينيين‭ ‬المسلمين‮»‬،‭ ‬مقابل»مسلمي‭ ‬الصين‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يفيد‭ ‬الإشارة‭ ‬للقوميات‭ ‬المسلمة‭ ‬الأخرى،‭ ‬للتأكيد‭ ‬على‭ ‬إن‭ ‬الإسلام‭ ‬مكون‭ ‬أصيل‭ ‬في‭ ‬تركيبة‭ ‬المجتمع‭ ‬الصيني‭. ‬وأن‭ ‬تصنيف‭ ‬‮«‬الخوي‮»‬‭ ‬كقومية‭ ‬مختلفة‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الخان‮»‬،‭ ‬يعتبر‭ ‬مجحفاً‭ ‬وخاطئاً‭. ‬وهو‭ ‬الموقف‭ ‬المهم،‭ ‬الذي‭ ‬يحتاج‭ ‬فهمه‭ ‬العودة‭ ‬لتركيبة‭ ‬الدولة‭ ‬الوطنية‭ ‬الصينية‭ ‬التي‭ ‬تضم‭ ‬ستة‭ ‬وخمسين‭ ‬قومية‭ ‬مُعترف‭ ‬بها‭ ‬رسمياً،‭ ‬تتصدرها‭ ‬قومية‭ ‬‮«‬الخان‮»‬‭ ‬الصينية‭. ‬ويتوزع‭ ‬مسلمو‭ ‬الصين‭ (‬وهم‭ ‬قرابة‭ ‬المائة‭ ‬مليون‭)‬،‭ ‬الى‭ ‬عشر‭ ‬قوميات،‭ ‬يشكل‭ ‬الإسلام‭ ‬الرابط‭ ‬الوحيد‭ ‬والاهم‭ ‬بينها‭. ‬حيث‭ ‬تتمتع‭ ‬كل‭ ‬منها‭ ‬بتاريخ،‭ ‬ولغة،‭ ‬وتركيبة‭ ‬اجتماعية‭/‬ثقافية‭ ‬خاصة‭. ‬على‭ ‬رأس‭ ‬هذه‭ ‬القوميات‭ ‬نجد‭ ‬‮«‬الخوي‮»‬،‭ ‬والذين‭ ‬لا‭ ‬يختلفون‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الخان‮»‬‭ ‬إلا‭ ‬بإنتمائهم‭ ‬للإسلام،‭ ‬وينتشرون‭ ‬بكافة‭ ‬ارجاء‭ ‬الصين‭. ‬بينما‭ ‬تتواجد‭ ‬بقية‭ ‬القوميات‭ ‬المسلمة‭ ‬على‭ ‬أراضيها‭ ‬الجغرافية‭ ‬التاريخية؛‭ ‬التي‭ ‬تكون‭ ‬قد‭ ‬ضُمت‭ ‬للصين،‭ ‬عبر‭ ‬مراحل‭ ‬تاريخية‭ ‬مختلفة‭. ‬ومنهم‭ ‬‮«‬الويغور‮»‬‭ ‬الذين‭ ‬يطالبون‭ ‬بالاستقلال‭ ‬ببلادهم‭ ‬التاريخية‭ ‬ويغورستان‭ (‬تركستان‭ ‬الشرقية‭).‬
أذّكر‭ ‬بهذا،‭ ‬لعّل‭ ‬ليبيا‭ ‬تطلق‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬فرانسواز‭ ‬أوبان‮»‬على‭ ‬أحد‭ ‬شوارع‭ ‬المدن‭ ‬التي‭ ‬ستزدهر‭ ‬بعون‭ ‬الله‭ ‬قريبا،‭ ‬أو‭ ‬لعّل‭ ‬إحدى‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭/ ‬أو‭ ‬الإسلامية‭ ‬تطلق‭ ‬على‭ ‬ميدان‭ ‬أو‭ ‬مدرسة‭ ‬أو‭ ……..‬،‭ ‬هذا‭ ‬الاسم‭ ‬الذي‭ ‬اقترن‭ ‬بالإنتصار‭ ‬لانتظارات‭ ‬مسلمي‭ ‬بلاد‭ ‬الله‭ ‬البعيدة‭

شاهد أيضاً

السائح يستقبل المبعوث الخاص للحكومة الألمانية

الصباح استقبل رئيس مجلس المفوضية عماد السايح، المبعوث الخاص للحكومة الألمانية كرستيان بوك والوفد المرافق …