منصة الصباح

حرب مابعد الحرب

أشرعــــة

بقلم : جمال الزائدي

 

في مقدمته السابقة لزمانها كما يصفها مختصون في العلوم الإنسانية والاجتماعية يربط ابن خلدون الجماعة بمحيطها، ويقر بسلطة البيئة الطبيعية في تشكيل طبائع المجتمع وأفراده. بل انه يوغل في البرهان لهذه السلطة فيضرب الأمثلة ويرسم الصور التي تجسدها يقارن على سبيل المثال بين السلوك الحضري الناعم والمسالم في عمومه كانعكاس للاستقرار وليونة العيش ..وبين السلوك البدوي الذي يجنح للخشونة والعدائية ، استجابة لواقع عدم الاستقرار وقسوة الظروف وشظف الحياة…

علماء الاجتماع والانثربولوجيا، لم يحيدوا مقدار أنملة عن ملاحظة صاحب المقدمة.. ففي كل الدراسات والأبحاث التي أجريت وفق المناهج العلمية الحديثة بعد ذلك بقرون ، ثبت أن للمحيط الطبيعي والثقافي والاقتصادي اليد الطولى في تحديد مستوى الصحة النفسية والسوية السلوكية للمجتمعات والأفراد

وإذا كان التبدل الطفيف في البيئات الطبيعية يمكنه أن يخلق كل تلك الفوارق في سلوك الناس وطبائعهم ..فالسؤال الذي يجب أن تهجس به جامعاتنا ومراكزنا البحثية والمئات من الأساتذة والمختصين في فروع الاجتماع وعلم النفس .. ما الذي ستخلفه سنوات الحرب التي تعيشها بلادنا ، في نفوس وعقول وسلوك الليبيين بكل أجيالهم الحاضرة والقادمة وعلى وجه الخصوص الشباب والأطفال منهم..؟

سيقول البعض أن سؤالا كهذا يطرح قبل أوانه ، فالحرب مازالت قائمة على قدم وساق ولا بوادر محسوسة تلوح في الأفق لنهايتها …. لكن المطلوب الآن ليس المباشرة في ترميم الخراب وإصلاح الدمار لكي ننتظر توقف الحرب وبدء السلام والاستقرار وتوفر الإمكانيات ، بل رصد حجم الكارثة ومساحة الأذى في جغرافية المجتمع الليبي..

قبل أسابيع قليلة تداولت الصحف المحلية خبرا عن دراسة نشرها مركز أبحاث بريطاني لا أتذكر اسمه ، حول الآثار النفسية والعقلية للحرب في ليبيا على فئات وشرائح المجتمع الليبي ،، الخبر وسط هذا الضجيج الهائل الآلات القتال في الجو وعلى الأرض، لم يلفت نظر الكثيرين بكل تأكيد.. لكنه على اقتضابه وفقره للتفاصيل دق ناقوس خطر حقيقي لمرحلة ما بعد سکوت البنادق الوطنية المتحاربة ..فالخبر يقول أن الدراسة المشار إليها خلصت إلى أن ما يصل إلى ستين بالمائة من الليبيين يحتاجون لعلاج نفسي وعقلي بسبب النزاعات والحروب التي عاشوها طوال سنوات العقد الحالي..

هذه النسبة المخيفة إذا صحت ، تعطي مؤشرا واضحا أن مرحلة الحرب طالت أم قصرت هذه الحرب لن تكون اقل قسوة من الحرب نفسها ..لأنها ستفرز نمطا سلوكيا ومنظومة قيمية مشوهة قد تقضي على ماتبقى من النسيج الاجتماعي المهتريء بفعل النزاعات والخصومات والاضطرابات ..

المصالحة والحل السياسي وعودة المؤسسات حتى وان أنجزت في وقت قريب ، فكلها لن تعني شيء إذا فقد المجتمع صحته النفسية والعقلية وسويته السلوكية والأخلاقية ..لذلك فحرب مابعد الحرب يجب أن تبدأ الآن في جامعاتنا وأكاديمياتنا ومراكزنا البحثية ..

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …