جمعة بوكليب
زايد..ناقص
أحياناً لا نتذكر كيف أأُتيحتْ لنا فرصة التعرّف على كاتب، أو على فنان تشكيلي، أو مطرب نجم، أو على ممثل ذائع الصيت، أو على سياسي بارز، أو على شخصية رياضية مشهورة. لكن شهر رمضان يذكّرني دوماً بقصة تعرّفي على كاتب صحفي ليبي اسمه: مهدي كاجيجي.
وعلى ما أذكر، كُنتُ، وقتذاك، في بدايات مرحلة المراهقة، وشغوفاً بقراءة الصحف الليبية والعربية. وكانت صحيفة الرائد تتربع على رأس القائمة. والسبب: الصفحة الرياضية. ولم أكن وحدي في ذلك التقييم غير الحيادي. كان أغلب رفاقي ومن أعرفهم يحرصون على اقتنائها لنفس السبب.
وأذكر أنّه في واحد من ” الرمضانات”، وفي فترة ظهيرة مملة، وقد نال منّي التعب والارهاق واحتواني كساد رمضاني مضجر، وقعتْ بين يديّ صحيفة الحرية. وفي الصفحة الأخيرة منها، وقعتْ عيناي على زاوية، بعنوان “يوميات صائم” بقلم مهدي كاجيجي.
كانت تلك المرّةُ الأولى التي أعرفُ فيها بوجود كاتب صحفي ليبي اسمه مهدي كاجيجي. وأوّلُ مرة أقرأ اسمه مطبوعاً. وأوّل مرة أقرأ له مقالة منشورة. شدتني المقالة جداً، وأضحكتني، ونفضتْ سريعاً عن قلبي غبار الضجر.
كان مهدي، طوال شهر الصيام ذاك، قد بدأ ينشر في تلك الزاوية بالصفحة الأخيرة، يوميات رمضانية، أطلق عليها اسم “يوميات صائم.” وهي مقالب رمضانية مضحكة، لا تحدث إلا لمواطن ليبي تحديداً في شهر الصيام. ولكي تكتسب مصداقية واقعية تبرر تلك المواقف، لجأ مهدي بذكاء إلى استخدام حيلة بارعة وهي الحلم. ومن خلاله، يروي ويحكي ويقصُّ ما حدث له من مواقف رمضانية مربكة ومضحكة. وتنتهي الحكاية عادة باستيقاظه من النوم مخلوعاً، كمن يستيقظ من كابوس. ليجد مائدة الافطار في انتظاره.
مقالب مهدي الرمضانية تلك، تجعل القاريء ينقلب على قفاه من شدة الضحك. ومنذ ذلك اليوم وصاعداً، صرت حريصاً على شراء صحيفة الحرية، وقراءة ما يكتبه مهدي. مدينة طرابلس، آنذاك، كانت مدينة صغيرة مقارنة بما هي عليه اليوم، ” واللي اتدوّره فيها تلقاه.” الغريب، أنني كنت أرى وألتقي في شوارعها ومقاهيها كثيراً من كتاب الصحافة والفنانين والمطربين والرياضيين، لكني لم يصدف وأن عثرت بينهم على بغيّتي: مهدي كاجيجي.
جاء وقت أمم فيه النظام العسكري الصحف. واختفت فيه صحيفة الحرية، كما غابت إلى الأبد بقية الصحف المستقلة. وأنتقل أغلب الصحافيين والكتّاب إلى الكتابة والنشر في الصحف الحكومية. ولم أعد اذكر، في لخبطة تلك الفترة الزمنية، أين ذهب مهدي وكيف اختفى؟ وخلال فترة زمنية قصيرة نسبياً، خيمّ الظلام على البلاد، واشتدت قبضة الاستبداد. فأختفيت أنا من شوارع طرابلس قسراً، واختفى كثيرون غيري، إما في غياهب السجون، أو أنهم تركوا البلاد، ليصول فيها العقيد ولجانه الثورية الفاشية. وبعض الكتّاب هجروا الكتابة والنشر تفاديا للشرور. ومرت أعوام طويلة قاسية ومخيفة. ولم يعدُ فيها للصحافة، حتى الحكومية منها طعمٌ أو مذاق. وأختفى مهدي كاجيجي من نظري وسمعي، وذاب كما يذوب فص ملح في كأس ماء، ولم أعرف إلى أي بلد في كوكبنا رمت به الأقدار.
مهدي كاجيجي، أطال الله عمره ومتّعه بالعافية، مازال، إلى يوم الناس هذا، قلماً مفعماً بالحيوية ومتقداً بالوطنية، وصارمَعْلَمَاً صحافياً لا تخطئه عين. ويواصل كتابة مقالاته بشغف وحماس الشباب، ورزانة وحكمة الشيوخ. ومازلتُ أنا شديد الحرص على قراءة ما ينشره من مقالات أولاً بأول، وأتعلم منه. ويزداد بذلك احترامي وتقديري وحبي لشخصه. وأتمنّى على الله أن يجمعنا في لقاء قريب.