منصة الصباح

محطاتٌ جوّية

زايد..ناقص

جمعة بوكليب

لم أسافرعن طريق البحر، إلا مرّة واحدة من ميناء طرابلس، ذهاباً واياباً، إلى جزيرة مالطا في شهر مايو عام 1988. ولا أحبذ السفر عن طريق البر، لأني أجده مضجراً نفسياً، ومتعباً جسدياً. وربما يعود السبب لأول رحلة قمتُ بها إلى تونس، في سيارة أجرة تونسية، استأجرتها أنا وصديق لي وخمسة ركاب آخرون، من محطة التاكسيات، في الباب الجديد بطرابلس، في شتاء عام 1970. وفي صيف عام 1974، سافرتُ رفقة صديق في رحلة  تعدّ نسبياً طويلة بالقطارات، نقلتنا من أثينا عبر صوفيا إلى بوخارست، وكانت رحلة شاقة. وفي صيف عام 1973 سافرتُ إلى القاهرة جوّاً. وكانت تلك أول رحلة جوّية قمتُ بها، وبداية علاقة طويلة بيني وبين المطارات.

المطاراتُ محطاتُ سَفر. والناسُ، أينما كانوا، يذهبون إليها لتوصيل أو توديع صديق أو قريب، أو لاستقباله، أو للسفر في زيارة، أو سياحة أو عمل. الأمر نفسه يتكرر مع محطات القطارات والحافلات العامة.

ولان المطارات محطاتٌ، فلكل محطة طعمٌ مختلف. لذلك تختلف المطاراتُ، في الطعم والمذاق والرائحة واللون واللغة. هناك مطارات، تبهرك بنظافتها، وحسن تنظيمها وجمال تصميمها، وما تقدمه للمسافر من وسائل الراحة، وأخرى تتمنّى ألا تطول قعدتك بها إلا لدقائق قليلة.  بعضها يتجمّل كأنثى، وبعضها لا مكان فيه لأنوثة. وعلى سبيل المثال، كنتُ أبغضُ السفر من مطار طرابلس الدولي، خلال الحكم السابق. إذ كنتُ بمجرد دخوله يغتم قلبي، وتتسارع نبضاته، ويتملكني خوفُ. وكنتُ أشعر أنّه، على خلاف مطارات مدن العالم الأخرى، ليس سوى قاعدة أمنية. عيونٌ تراقبكَ في أنحائه، تُلاحقكَ في كل خطوة، وكأنها تفتش ما تحمله أحشاؤك، وتسعى لالتقاط ما يدور في عقلك من أفكار، وما في قلبك من مشاعر. ولن تشعر بعودة دقات قلبك إلى نبضها الطبيعي، إلا بعد مغادرة الطائرة التي تقلك الأجواء الليبية.  وإذا خُيرتُ، فإنني أختار تجنّب السفر عبر مطار قرطاج في تونس. مطار يجعلك تشعر بالغربة منذ أن تطأه قدماك. وكلما اضطررتُ للمرور به، أصابُ بقلق من كثرة ما يدور في صالاته القذرة من ضجيج وفوضى، وما يرتكبه رجال الأمن من مخالفات مهنية، من دون حياء أو خجل. ولنفس الأسباب، وباختلافات بسيطة، لا أحبذ أجواء مطار الدار البيضاء. وحين تتيح لي الظروف زيارة مدينة القاهرة، فإنني أحرص  في مطارها الدولي، على عدم ترك حقيبتي تبتعد عنّي لثانية واحدة خشية السرقة. ولا أهتمُّ في مطار بيروت إلا بأمر واحد، وهو سرعة مغادرتي له مُحمّلاً بسفرة بقلاوة. وآخر مرّة زرتُ بيروت، منعني رجال الأمن من دخولها. وأوقفوني كسجين، في صالة متسخة، لمدة 12 ساعة تقريباً، إلى حين مغادرتي في اليوم التالي. وفي مطار اسطنبول، كلما زرتُ تلك المدينة الساحرة، أدعو الله، حين أصل إلى مطارها، أن يرزقني بالصبر، بسبب طول الطوابير. مدينة بلفاست، بشمال ايرلنده، ظلت المدينة الوحيدة، التي بمجرد ان أغادر متن الطائرة، وأدخل ردهة مطارها الصغير، ينتابني احساسٌ بخوف لمعرفتي بأنني أزورُ مدينة بهوّية محل خصام وقتال، مثل قلب مشطور شقّين متنافرين.

ومازلتُ، كلما زرتُ مدينة دبلن، أشعر ببهجة، وأنا أنسلُّ طليقاً، في ردهات مطارها،  كنسمة صيف. وحين أزورُ مدينة روما، رغم اتساع مطارها ونظافته وجماله، أحسُّ بضيق، من شدة ازدحامه بالسواح . وأحرص قبل مغادرته، على احتساء فنجان قهوة أكسبرس، لأستشعر مذاق القهوة، ولأحنّ  إلى الصعلكة في ازدحام شوارع مدينة مازالتْ، عبر العصور، تسير يداً بيد مع التاريخ، ونهرُها شاهدُ عيان.

شاهد أيضاً

(عن ايام الطباعة نار ورصاص واورام )

زكريا العنقودي انا ولد مطبعة وكبرت من عمري 15 العام بين الحبر والاوراق ، وللعلم …