منصة الصباح

ما أجملنا…ونحن نكوّن هذا الحديقة الاجتماعيّة

محمد الهادي الجزيري

 

بفضل إدارتي لسطوح المدينة العتيقة برتبة مواطن صالح، وقابل للتأمّل الصامت وكتابة الشعر الرصين، أستطيع التأكيد لمن يهمّهم الأمر أنني لم ألاحظ تذمّر الأعشاب الطفيليّة من الحضور المميّز لنبتة الحبق المتربّعة داخل الأصّ الخاص بها، كما لم تعلن نبتة الحبق ولا مرّة واحدة غيرتها من الحريّة المطلقة للحشائش المهيمنة على المشهد ” السطحي” أو “السطوحي” إذا شاءت اللغة والقرّاء المتربّصون بكلّ خطأ يقع فيه الكاتب دون بذل عناء الجهد للبحث عن مبرّر واحد له، كأن يكون متبرّما من سطحيّة الحوارات السياسية التي يمنّ بها عليه ” الفيسبوك ” الغريب العجيب، بل لعلّ الكاتب يمرّ بمحنة عاطفيّة أو بوعكة ماليّة، الافتراضات كثيرة وأخطرها أن يكون قد انتهى منذ قليل وقبل الجلوس للكتابة، من جلسة استنطاق داخل حرم المؤسسة الزوجية العتيدة، وباح بكلّ ما لديه وما في جيوبه لأمّ أطفاله .. العزيزة جدّا، .. على كلّ، هذا ليس موضوعنا، لنعد إلى السطح وإلى ما يضمّ في أرجائه من كائنات وأصوات تصلني الآن جملة وتفصيلا: ـ صوت المؤذّن القادم من الصومعة البعيدة نسبيّا، والداعي إلى أداء صلاة المغرب ـ صراخ جارتي المهذّبة، صراخها المتدفّق من أقرب نوافذها إلى أذنيّ، من الواضح أنّها تراجع دروس الشتم في حضرة ابنتها الكسولة.. الجميلة، والحقّ يقال أحيانا ـ سيل الموسيقى الصاخبة المنصبّ على أمّ رأسي من الطابق العلوي لجيراننا الجدد، المتحرّرين المتكبّرين على أهل الحي..، تصوّروا أنّهم لا يلقون التحيّة على أحد، وليس لهم دفتر ديون لدى دكّان الحومة، بل إنّهم لا يتعاملون معه أصلا. ـ مواء ذلك القطّ السمين، الكلب ابن الكلب، ألا يشبع هذا المسخ؟، ألا يكلّ من معاشرة قطط الحيّ وما جاوره؟، ألا يتعب من المغازلة والتسوّل والصعلكة من سطح إلى آخر؟، وخاصة من إصدار هذا الصوت الطافح بالتزلّف والنفاق ـ طنين الدرّاجة الناريّة التي تخترق الآن أزقّة المدينة العتيقة، اللّهم نجّ كلّ العابرين من راكبها المجنون، اللّهم لتكن نهاية هذا ” الكوبوي الحديث ” في حفرة لا قرار لها، أو فليعانق شجرة الخرّوب الوحيدة المتجذّرة منذ البدء في منعطف الزقاق المظلم منذ البدء.. اللّهم آمين يا ربّ العالمين….

هذه بعض الأصوات التي تصلني وأنا أباشر عملي التطوّعي اليوميّ كمتأمّل لسطوح المدينة العتيقة والسماء التي فوقها مباشرة، وقد ذكرتها تباعا بعد أن مررت بذكر أعشاب السطح ونبتة الحبق،ولسائل أن يسأل:”ما شأني أنا بعالمك الصغير أيها الكاتب؟”، والجواب بسيط : أردت أن أدعو الإخوة الأعداء إلى التعايش وقبول الآخر، فوجب عليّ تذكيرهم بتناغم عديد الأضداد الأخرى في مساحات أضيق بكثير من أوطاننا الفسيحة ومنابرنا المفتوحة، فإن كانت النباتات والحيوانات والأصوات قادرة على تقاسم رقعة صغيرة من السطح، وإن كنّا قادرين على سماع مختلف الأصوات والموسيقات وشتّى أصناف الضجّة في الآن نفسه ودون أن يحدث لنا مكروه، فنحن مؤهّلون بالتالي لمقاسمة أرصفة البلاد مع المختلفين معنا شكلا ومضمونا، يمكننا العيش معا كما عشنا سابقا، ألم تجمعنا الأعراس والمآتم والمهرجانات والمظاهرات والحافلات وكلّ فضاءات الحياة؟، ألم نقترف الحياة جنبا إلى جنب، داخل البيوت وفي حضرة الأهل وفي زحام الغرباء؟، ألم نكن يوما نُسخا لبعضنا البعض، كان وما يزال منّا اليمينيّ واليساريّ و “الرغيفيّ” والمائيّ والترابيّ والناريّ والهوائيّ، كان وما يزال منّا الفنّان والمتشبّه بالإنسان، والمغلق للتصليح والمفتوح لكلّ ريح …إلخ. عبرنا قرونا تحت سياط الجبابرة والطغاة وتآزرنا في المحن والشدائد، وجمعنا ” قفّة ” السجين وإن خالفناه الرأي والمعتقد، كم غفرنا لبعضنا البعض وهرعنا إلى ما فيه خيرنا ولمّ شملنا وتعاتبنا بالتي هي أحسن، فهل لابدّ من طغيان ديكتاتور علينا لنتجاوز اختلافاتنا الفكريّة والسياسية وغيرها؟، آمل أن نقدّم معا للحريّة أجمل هديّة تنتظرها منّا، بعد أن قدّم لها شهداؤنا الأبرار مهرها الغالي المعمّد بالدم ، آمل أن نهديها تراحمنا وتسامحنا ورغبة صادقة في قبول الآخر كما هو ، وليس كما نريده أن يكون.. سيظلّ العالم مفتوحا ومتنوّعا ومتعدّدا كما كان أبدا، فرجاء.. رجاء لا تحيلوا ثراءنا الايدولوجيّ فقرا أهليّا، ولا تجعلوا خصوبتنا الحضاريّة جدبا فكريّا، ما أجملنا ونحن نكوّن هذا الحديقة الاجتماعيّة ..، ما أروع قامة السرو وما أينع العشبة المنبثقة تحت جذعها ، مرحى بالجميع .. بل مرحى وأهلا وسهلا ومرحبا بالشوك العالق بالأزهار..ما لم يكن سامّا..مرحبا بغدنا المشرق …

شاهد أيضاً

مراجعة وتنقيح الأسعار الاسترشادية لأعمال البنية التحتية

ترأس وكيل وزارة الإسكان والتعمير لشؤون الإعمار بحكومة الوحدة الوطنية عبد المنعم صالح اجتماع لجنة …