حاوره: مهنَّد شريـفة
شاعر لن تتعرّف عليه وسط تجمّعات النفاق الأنيقة ولن تجده على منابر الأمسيات يُرتل قصيدة عصماء …ولدٌ وُلِدَ لكي ينتشي به الحرف، لذا فلن تعثر عليه إلا وهو مكتظ بالصعلكة يتهجىء ظل خطواته، ويلعب دور الشمس في لُجّة الظلام فهو يُدرك أن حنجرته قد خُقلت من نار لتصرخ في وجه العالم وأن شفتيه قُدَّتا من ماء لتمطر على القوافي المقفرة….
وطوال ساعات اليوم لا ينفك هذا الشاعر عن أن يُعلِّم قدميِّ ظله كيف يركضان بينما هو لا يتحرّج في أن يُكمل بقية الدرب أعرجًا …
“ كيف تُؤلف طريقًا لخطواتك ،
دون أن يُغرقك البحر “
على رصيف الأمنيات المستحيلة من توسيع شرخ جراح أسبوعٍ يُنكر أنه آتٍ لا محالة…ففوق كفّه تزدهر تعويذة ينتصر بها على ذاك القادم وحبيبته بدهشة فنجان قهوة تختزل الركام بضحكةٍ …” يحدث أن ألج الحانة،
و أجدني هناك في الزاوية،
فأفر إلى حانة أخرى
حيث لا أوجد”….
هذا الولد الرجل الذي لا يستحي أن يقول لنا لقد خسرت هذا الصباح فلتُهنؤني أيها الرفاق …وانطلاقًا من ذلك إرتأينا أن نُجدّف لبعض الوقت في بحر صديقنا الشاعر عبد الرحيم ناصف فكان معه هذا الحوار :
الشعر بناء موازي يُعيد نحت معطيات واقعنا تبعًا لحدّة انكساره، أنتَ كيف تنجو حينما تقف على أسنّة هذه السِهام لتكتب؟..
..هل ينجو الكاتب/ الشاعر …ذاك الذي نبحث عنه فينا ؟
تحمل ذاكرتي الملعونة أسماء شعراء بقوا راسخين فيها. لم يسقطوا مثلما سقط منها شعراء المقررات المدرسية و الدواوين الفخمة..
لم ينج “ جلجامش” من مصيره المحتوم…بقي خالدا إلى الآن.
لم ينج طرفة بن العبد…
لم ينج بشار بن برد…
لم ينج رامبو..
أجدني أحمل بعض جينات هؤلاء..و أكثر منهم، أولئك المغنون الذي عبروا الآفاق الأخرى…لم يكن الغجر يؤمنون بالنجاة، كانوا فقط يرقصون و يشربون..ربما كانوا يدخنون الحشيش، أكيد سيفعلون لو عرفوه..
أقتفي أثر هؤلاء. أقتفي؟ لا أعتقد، بل أسعى لاستمرار هذه السلالة، أتوق أن أكون فاتحا لطرقات أخرى جديدة…ليست النجاة إحداها.
أحمل وشم الناجين أيضا، وهذه مفارقتي المؤلمة..نجوت من كل شيء…إلا تلك اللعنة التي لم تعلن عن نفسها إلا بشكل متأخر..
نجوت من الموت و أنا “ في المهد صبيا”، كان مهدي الأول حجرا باردا جدا. كان القماط الأول، مطرا غزيرا. ربما كان يغسل الحجر من خطيئة أني ولدت عليه.
نجوت من طفولة أخرى كان الموت يتخطف عيونها دون ضجيج..كان الموت رفيقا لنا في ملجأ الأيتام، و تعودنا عليه؛ لكني نجوت منه. لكن هل بقيت حيا ؟؟
كان بعضنا يموت جراء الأمراض التي لم نكن نعرف عنها أي شيء، البعض الآخر كان يموت لأسباب أخرى..و من لم يمت، ترك هناك بعضا من أشلائه و عاد يحمل أثقالا فوق أثقال حكاياته المنذورة للنسيان..
هل أكتب لأنجو ؟
لا يبدو ذلك. بل العكس هو الاكثر رجحانا، أكتب ربما لأسرع النهايات..أعرف أن الأمر مفارق. لم أعد للحياة بشكل طبيعي إلا بعد أن انخرطت في الكتابة، بعد أن ظهرت لعنتي. مع ذلك لا أعتقد أنني أنجو…
في مستهل مقدمتنا أشرنا إلى أنه يمكننا أن نلقاك أينما يممنا وجهنا على الخريطة إلا بين الزحام الذي يحترف الكذب والنفاق، هل العزلة ثمن ضروري على الشاعر دفعه وهو يرقص ؟
لترقص في مجتمعنا، عليك أن تختبئ. عليك أن تنعزل.
لتقول الشعر، و أفضل القول : لتكتب، تلزمك عزلتك..” و هل من شاعر دون عزلة”، كما يقول صديقي الشاعر شفيق بوهو..
لست مهووسا بالزحام، لم أتعود عليه، لا أتحمل الضجيج، لا أتحمل أيضا “ضجيج المبدعين”..ثم إني لست على وفاق تام مع “ إكراهات الزحام..
في مشهد ثقافي عربي يتسم بالتشابه، انهيار تام للبوصلات الفكرية، شح ثقافي وفكري، هيمنة الإيديولوجيات المتطرفة …في هكذا وضع ماذا تعتقد أن يسود حتى في المشهد الثقافي ؟ الزحام الذي يحترف الكذب و النفاق، تخلي المثقف عن فهم ما لدوره سوى..النجاة بجلده و التخلي عن “ الطوباويات” التي لم تعد تجدي نفعا…
للحفاظ على نوع من الفطرة و بعض الإنسانية التي نسعى للوصول إلى كنهها، إذ أن الهدف من الكتابة أو الإبداع بشكل عام، يكون دائما هو هذا التطلع نحو الإنسان الكامن فينا، هذا العنصر الذي يوحدنا، كونية الإنسان….و حين التخلي عن هذا المسعى، لا يصبح للمنبع أية قيمة مضافة، الانخراط في هذا العبث بفقدنا بوصلتنا، يفقدنا إنسانيتنا.
تبدو لنا مغامرًا سرق عصا موسى وإدعى النبوّة فصدّقه الشعر، ألهذه الدرجة الشعر بحاجة إلى نبيّ يحمله على كتفه ؟
لتكون نبيا، عليك أن تتوفر على كتاب، عصا،…و قدرة كبيرة على القتل.
هل على الشاعر أن يكون قاتلا ..ليصير شاعرا؟
تخليت عن الكتاب، ولدت شاعرا ونسيت. لم أولد نبيا، و لربما هذا جنب الأرض كثيرا من الويلات يا صديقي. بكل الاحقاد التي تجرعت، كل الضغائن التي كبرت معي، كل الآثام و الأرشام التي مهرتني، كل الندوب التي تحملني و أحملها ….لم تكن لتقودني إلى النبوة. ليس على “ اللقطاء أن يصيروا أنبياء” ..
لذا فهمت فيما بعد أن علي أن أصيرا …حمالا للحكايات، لذا سرقت من موسى عصاه. كان علي أن أدق جدارا راسخا في النسيان و الصمت..و الفرار.
لفعل كل هذا، كان لابد من عصا ..عصا نبي خذله قومه…نحمل نفس المأساة، هو خذله قومه و نحن “خذلنا” مجتمع لم يعترف بنا..و أنا واحد ممن قرروا أن “يخذلوا المجتمع”…و يفضحوه. لذا “ليس علي أن أصير نبيا”..
لا مكان للأنبياء في الشعر…كما لا مكان للشعراء في رقيم النبوة.
الشعر في حاجة لمن ..يعثر عليه، لمن يجده، لمن يؤمن به، لمن هو مستعد للغوص في الوحل ..للكشف عن طرقات أخرى تقودنا ..إلينا.
هذه الأرض من الأحزان و الفواجع، هذه الأرض التي تخصب الحب أيضا و توزعه، هذه الأرض التي تحفظ حكايات الأحذية القديمة، الأشجار التي لم تمت بعد…هذه الأرض المعطاء المسماة الشعر، في حاجة لمن يكتشف مجاهلها التي لم تطأها ألسنة “ القوالين بعد”..و بالطبع لن يكونوا “ أنبياء”.
الشعر ليس وصايا، هو كشف في كل شيء، لكل شيء..
هو الفيض على ما فيه..
هو الفيض خارج ما فيه..
الظاهر الذي لم يظهر بعد، الباطن الذي لم يحبل بعد…
طفولتك لازالت لا تعي أن جسدك تدلى من على سور المنزل وتخطى الريح إلى ما بعد الهُناك، لماذا ربما يُعجبنا إصرار الطفولة علينا بأن نبقى خارج تصنيف الناضجين ؟
في الطفولة تشكلنا، ..كشاعر إن شئت، ككاتب كما شاء آخرون، كصعلوك كما أشاء أنا؛ مازلت هناك، مازلت لم أصف حساباتي مع الطفل الذي كنته.
هو خانني، و أنا فعلت المثل. هو تخلى عني، أنا أيضا فعلت. هو فر مني دون أن أدري، أنا أيضا حاولت، لكننا لم نصل إلى نتيجة. لذا كان علي يوم ما، أن أصحح هذه العلاقة، أن نعقد أنا و الطفل الذي كنته؛حوارا ممتدا في الزمان، كان على كل واحد فينا أن يتحمل عواقب هذا الحوار. لم أكن طفلا بريئا يا مهند، ولم أكن أشبه الآخرين. أنا الآن أعيش هذا الجحيم، جحيم أن تواجه طفولة لا تشبه طفولات أخرى.
لم أولد فقيرا، لم أولد معاقا، أو بتشوه خلقي…لا، كنت وسيما، لكني كنت “لقيطا”. فعلت مثل الآخرين، ادعيت أنني نسيت و حاولت أن أكمل طريقي؛ لكن الجميع رفض ذلك..وصل بي الأمر إلى أني أنا أيضا صرت أرفض ذلك..و كان ما كان؛ صرت كاتبا و شاعرا و حشاشا..
هل عاش كل الشعراء طفولة تشبه ما أنا عليه؟..لا أدري…
حين يضيق مزاجك بهواء النوافذ وتذبل ورتدك على نهد حبيبتك متى تستطيع أن توقف القصيدة عند حدّها ؟
ليس الأمر محددا بالزمان و المكان ، هكذا. الشعر ليس كتابة آلية، ليس ممارسة تقنية، ليس وظيفة..طبعا عدا “ النظامون”، هؤلاء القادرين على صياغة “نصوص” تحت الطلب بحجة السليقة، هناك “ الصنايعية” طبعا،…
شخصيا أحس بالغرابة أمام نفسي، أكتب نصوصي حين أجدها في رأسي و قلبي معا، لا أهتم بموعد البداية، لا أفكر فيها مسبقا، قد أكتب بشكل مسترسل، وقد أتوقف عن الكتابة لأسابيع، لأشهر….
لكني أكثر قدرة على ضبط المواعيد التي لا أكتب فيها.
من خلال تجربتك الشعرية الفذة هل كنت تحاول تعويض ما أسقطوه عنك في الحياة بالقصيدة ؟ مثلاً عندما تنبذك امرأة تحتمي بالورقة الصفراء وتُؤطر شتائمك لها بدم أزرق ؟ أو تستعيد غنائم العائدين من الحرب ؟
لو كان لي أن أتحدث عن “تجربة” ؟ تجربة لم تطلق و لا ديوانا واحدا..فأنا و “الشعر” لا نتوفر على “علاقة حميمية” إن شئت. أعيش هذا التناقض بشكل مريع.
سبق أن أشرت في أول الحوار إلى “ اللعنة التي ظهرت”..فأنا لم أقم علاقة حقيقية مع الكتابة إلا بعد أن سنوات قليلة. 2009 على ما أعتقد، بمعنى حتى منتصف الأربعينات من عمري..العلاقة التي أعادتني إلى إعادة النظر في مجموعة من الأشياء، في إعادة اكتشاف هذا الكائن المسمى “عبدالرحيم”، لأكتشف أشياء مرعبة، لأنقذ ما تبقى من بعضي، أنا الذي اكتشفت أني “ضيعتني” كل هذه السنوات……..
كان علي أن أعيد رتق ما أكتشفه، كتابة ..اكتشفت أني لا أتقن سوى هذا، أن أكتب عما كان، عن أسمائنا التي سقطت عنوة منا، عن طفولتنا التي ضاعت منا و آن لنا أن نعيدها..على الأقل إلينا..
أكتب لأفر من أشباحي، أيضا لأحتفي بمناطق الشمس و الحب التي تسكنني،
معظم من يتذوّقون لغة الشعر تنطلي عليهم خدعة الشعر فيعود في أبصارهم الكون إلى أصله ، مُضغةً لكن هذه المرة بين فكيّ الشاعر ، أتستشعر بوقع ذلك الحنظل تحت بلل لسانك ؟
“ في البدء..كان الشعر”
يبدو تقريرا غير مستساغ، لكني هكذا أرى العالم..
كان أول اتصال لي مع “قدرة الكلمات على تغيير العالم” هي كلمة “ لقيط”..كان على الطفل الذي كنته أن ينتبه إلى هذه الكلمة و يبدأ في الحفر، كي يكتشف فيما بعد أنه كان يحفر جرحه الرئيسي كيما لا ينسى..هناك ، اكتشفت مرارة الكلمات التي اختزلت كل العالم.
كان علينا في كل خطوة، أن يذكرنا العالم أننا مجرد “ لقطاء”، كلما اشتدت مرارة الكلمة في لساننا ،أدركنا أن العالم يتغير..
لكني أيضا قادر على تذوق طعم العسل فيه، لست على وفاق تام مع العالم، مع ذلك “أحبه”….يهيئك الحب أن تناور كل هذه المرارة، يهيئك لتصير شاعرا نحو الإنسان فيك…رغم مرارة طعم العالم، ما قيمة شاعر غير قادر على الحب؟
ماذا ترى في مرآة عينيك ؟ غير ما يراه العابر الذي يعرف طريق العودة إلى منزله ؟ هل أردت يومًا التيه عن طريق العودة لمنزلك ؟
أرى ما أرى…كل هذي الحروب، عرجي كي يستمر توازن العالم داخلي، أنا بلا لون خارجي، أمرأة تهيء كل خيولها كي أعيد امتطاء صهوة الحلم من جديد..
لم أملك أبدا منزلا كي أعود إليه، لست مغرما بالعودة، لكني لا أنوي أن أضل الطريق إلى قلب حبيبتي…؟