منصة الصباح

شواهد مضيئة من كتاب الناقد خليل قويعة

 

فن النقد في أساسه اقتناصات نتاج حساسية عالية وإدراك للمنتج الإبداعي المعروض للدراسة والتناول، فما يتم تحليله من مخرجات وشواهد من النص الإبداعي «الفني أو الفكري أو الفلسفي» يتم اقتناصها وصياغتها إلى أفكار أولية لموضوع التناول، يتم تمريرها على نظريات النقد التي رسخت عبر عصور من الإنتاج الفكري المتواصل من فلاسفة وفنانين ومفكرين، وبالتالي لا يكفي أن يكون الناقد كخزانة عتيقة تحوي كل النظريات والأفكار المسبقة « كنوز معرفية « ؛دون ملكة الالتقاط  والتموضع في مواطن الجمال، والابتعاد عن بؤر القبح وكشفها، كونها هي أساس معرفة المنتج الفني، وهدف مشروعيته في الوجود كمقترح جمالي رفيع.

والفنان خليل قويعة في المقام الأول فنان ممارس للفن ومنتج له بامتياز، ومن الذين يمتلكون الانتباه الكافي والحساسية العالية المطلوبة في العملية النقدية، وهو دارس ومطلع بشكل كبير على ما تم إنتاجه من فنون وما تبعه من تنظير ونقد عبر مراحل تحصيله العلمي والمعرفي، ذلك أن الفنان قويعة  تجول واستشهد بنظريات وأفكار سابقة من تاريخ الفن عبر عصور متعددة ومختلفة جغرافيا وزمنيا، في كتابه الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تحت عنوان: العمل الفني وتحولاته بين النظر والنظرية (محاولة في إنشائية النظر)، وفيه قبض على مفاصل مهمة، وسلط الضوء بكل انتباه على زوايا معتمة كانت تعلوها مسحة من الغموض في غرف نظريات تناولت النظر والمشاهدة ، وبالتالي موضوع التلقي ،الذي هو كما يشير الكاتب ويؤكد عليه عبر فصول كتابه، من مكملات العمل الفني الحديث وبدونه لا يكتمل إنجازه .

الكاتب يبدأ بطرح قضية معنى «النظر» وما ورد  في القاموس العربي، ومقارنته بالقاموس الفرنسي ،وما هو الفرق بين النظر من حيث الفعل كالنظر في الشيء؛ أو النظر إليه واختلاف المفهوم أو عدم وجوده بين الثقافتين العربية والفرنسية أو الغربية بشكل عام .

في العصر الحديث الفنان سيد أفكاره بخلاف الفنان في العصور الأولى الذي ابتدأ من الرسم على الكهوف إلى عصر النهضة أو يزيد، فكل دوافعه كانت دينية بتدوين وسرد قصص الكتب السماوية ، وقبل ذلك في صناعة التعويذات والسحر لمواجهة مخاطر الحياة المختلفة. لكن العمل الفني المنتج في العصر الحديث أصبح فوق القانون، كما يشير الكاتب خليل قويعة في كتابه هذا، متجولا بالقارئ بكل رشاقة بين عدة نظريات وأفكار تم استخلاصها من قراءات متعددة كان يشير إليها ويفحصها ويقلبها ويتفق معها في أحيان ويفندها في أحيان أخرى؛ والممتع في الموضوع هو تفكير الكاتب المنهجي الفلسفي بصوت عال، فهو يساعد القارئ المتخصص أو الدارس على الوصول إلى قناعات أخرى غير السابقة القارة ؛ من مفاهيم تقليديه  تقول إن الفنان هو العنصر المركزي والرئيسي في إنتاج العمل الفني،  والمتلقي له في دور المكمل، وبدونه لا يمكن أن يكتسب العمل ماهيته ووجوده .

بهذا ابتعدت مركزية الفنان الصانع للمقترح الجمالي عن الاستحواذ الكلي، وصاحب الفضل في إخراجه إلى الوجود، أصبح يعتمد وبشكل كبير على المتلقي، الذي يساهم في تشكيل هذا المنتج باقتراحاته في الفهم والإدراك . كجزء من انشائية النظر هي العملية العلمية للإبصار وعلاقة الطاقة الضوئية والموجات الكهرومغناطيسية والفوتونات التي تنتقل عبرها الألوان وتحددها، وتحدد ماهيتها وأشكالها التي تتخذها والشبكية وأنسجة الخلايا التقبلية للألوان وصولا إلى الدماغ الذي يترجم هذه الاشارات عبر عملية معقدة من المراحل تصل الدماغ بشكل إشارات مشفرة ومنها تترجم إلى بيانات مفهومة وتساعدها خبرات أخرى يعتمد عليها الناظر منها ذائقته البصرية ومجموعة معارفه وتحصيله العلمي وخبرته بشكل عام فكل هذه الأمور تشكل نظرة المتلقى للعمل وتكمل من إنجازه وتحقيقه، وهذا ما يشير إليه الكاتب في فصل كتابه الثاني من شرح يعتمد على المنهج العلمي مستعينا بالكثير من الحقائق العلمية والمعادلات الرياضية والتفكير المنطقي في هذا الخصوص .

وفي استنتاج آخر يصف الكاتب  في الفصل الثالث أن الفن المعاصر أﺻـﺒﺢ  خطاب لغوي وبالتالي يصبح التنظير تحليلا لذلك الخطاب كما في الكونسابت آرت « الفن المفاهيمي « وعن ترسيم العمل الفني أنطولوجيا حسب كلام الألماني إيزر من جماعة كونستانس»، إن نصا لا يمكن أن يَدرك إلا إذا كتب وبالتوازي لا يمكن أن تصبح اللوحة عملا فنيا إلا إذا تم عرضها على العموم وليس لشريحة معينة من الفنانين أو النقاد لتكتسب وجودها الفعلي باختلاف طرق النظر إليها وتعددها من جمهور متنوع الثقافات وساق مثلا؛ الفتى القوي الذي يصارع أسدا في الغابة لا يكتسب حالة البطولة إلا إذا كان المصارع في حلبة كبيرة أمام الجماهير الغفيرة ففي هذه الحالة فقط يصبح الفتي بطلا أسطوريا.

من بداية النشأة الاولى للتفكير الفلسفي بمدرسة الحكمة وصولا الى اعقد النظريات والاطروحات  الفكرية كالفينومينولوحيا الى قضية الادراك وعلم النفس بين رولان بارت الى جون دوي وكل من توقف عندهم الكاتب من فلاسفة و فنانين وكتاب في كتابه العمل الفني وتحولاته بين النظر والنظرية (محاولة في إنشائية النظر),عن ما ساهموا فيه في هذه المناطق الكل حسب خبرته وتخصصه وذكر الكثير من العناوين والمراجع التي بكل تأكيد سوف يستفيد منها الدارسين والباحثين المهتمين في هذا الجانب من مسائل الادراك والتلقي في العمل الفني والاقتراب اكثر منه . وسوف استقطع بعض الجمل والاقتباسات من كتاب الفنان خليل قويعة من سياقها الموضوعي وسأستعرضها هنا في هذه المقالة كشذرات يمكن التواصل معها واستدراك ما يريد الكاتب قوله كملخص لبعض الافكار التي وردت بالكتاب :

«أن فكرة العمل الفني هي اساسه وماهيته الاصلية وما الالوان او الاصوات والأشكال سوى وسيط ينبه الجمهور إليها كما ان الصورة المرسومة ليست العمل الفني يأتم ما للعبارة من معنى لان ماهية العمل الفني لا تكمن في النظر إليه بل النظر فيه ذهنيا  وفي الوقت نفسه اشار الكاتب خليل قويعة في نفس السياق إن هذه الفكرة تتبدل وتنمو وتغيب وتظهر بحسب الهيئة التي تتخذها على المستوى التقني والتعامل مع الخامة الفنية وما يفرضه اداؤها من داخل اللغة التشكيلية «  * من كتاب العمل الفني وتحولاته بين النظر والنظرية   خليل قويعة ** المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات .”

“ولئن كانت الصورة او اللقطة الفوتوغرافية لحظة خاطفة , فإنها لحظة مكثفة يلملم فيها الفنان شتات الذات التي توزعت بين الربوع والأمكنة انها محاولة لإدراك وحدة الذات وتخليد الرؤية العابرة وتأكيد طابع الديمومة في المشهد.”

“ان الصورة الفوتوغرافية تحث مشاهدها على اعادة بناء المشهد المصور على ركح المرئي فهي اقرب الى المسرح كما قال بارت فيما ان شروط اللوحة الانطباعية على سبيل المثال تلك التي تنزع الى التجريد بطبيعتها, الى اعادة بناء مشهدي او تشخيصي , لان ذلك ليس من اولويات النظر الجمالي وأحيانا ليس من مهماته بل ليس من اهتماماته . وبعد فليس في التنويعات والتشكيلات المختلفة التي قدمها كلود مونيه لمشهد زنابق الماء ما يدعونا الى استعادته في الطبيعة بل بالعكس انها تحثنا على مغادرة المدرك الطبيعي باتجاه مدرك تشكيلي خالص , يمهد لنظر تجريدي , حيث يكتفي الشكل الفني بذاته ويستقل عن مرجعيته .”

«موضوع النظر عند السورياليين الذين استفادوا من الفرويدية والتحليل النفسي ، حيث ما عدا العقل سيدا لعمليات المعرفة والابداع ، ليترك العنان امام آليات اخرى تخضع لمحركات الرغبة والدوافع الداخلية والشهوة وكيف تتحكم الذات الحاسة في يمثيل الموضوع المحسوس ؟»

جاء هذا الكتاب بلغة مكثفة رفيعة وطرح فلسفي عميق يصعب على الكثير من غير المهتمين والمتخصصين بالشأن الفني الفلسفي فهو بمثابة توطئة لمشروع كبير يمكن ان يستمر في اكتشاف جوانب اخر من العملية الابداعية وشرح ما يحدث من داخل المعمل التشكيلي خصوصا ان الكاتب فنان ممارس للعمل الفني ودارس مطلع على ما تم التنظير له في هذا المجال .

الكتاب صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات, مكون من 399 صفحة بالقطع المتوسط في ثلاثة فصول بالإضافة الى فهرس عام والمراجع وجدول المصطلحات والذي اعتبره من اهم المكتسبات لكل من الدارسين لتزود بالكثير من المصطلحات والكلمات التي تفتقرها المكتبة العربية وايضا الكتاب تضفي الكثير لأهميته واختلافه في تناول قضية النظر والتوسع في هذا الطرح.

 كتب / عدنان معتوق

شاهد أيضاً

مكتبة طرابلس تعلن انتقالها لمقر جديد بحي الأندلس

أعلنت مكتبة طرابلس العالمية للنشر والتوزيع انتقالها لمقر جديد بمنطقة حي الأندلس، مع استمرارها في …