منصة الصباح

رجعتْ الشتوية‭

زايد ..ناقص

بقلم.. ‬جمعة بوكليب

قَصُّ‭ ‬حَبلِ‭ ‬الوقتِ‭ ‬الطويل،‭ ‬بنصل‭ ‬سكينه‭ ‬اللامع،‭ ‬والحاد،‭ ‬أولُ‭ ‬ما‭ ‬يفعله‭ ‬فصلُ‭ ‬الشتاء،‭ ‬بمجرد‭ ‬أن‭ ‬يحطّ‭ ‬بحمله‭ ‬الثقيل‭ ‬بيننا،‭ ‬أينما‭ ‬وحيثما‭ ‬كنّا‭. ‬فصلٌ‭ ‬يجعلُ‭ ‬المرءَ‭ ‬يحسُّ‭ ‬بأن‭ ‬المسافة‭ ‬الزمنية‭ ‬التي‭ ‬تعوّدَ‭ ‬أن‭ ‬يقطعها‭ ‬ضوءُ‭ ‬النهارِ،‭ ‬من‭ ‬الحد‭ ‬إلى‭ ‬الحد،‭ ‬في‭ ‬الفصول‭ ‬الأخرى،‭ ‬تنكمش‭ ‬برداً،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنها‭ ‬قطعة‭ ‬قماش‭ ‬غُطّستْ‭ ‬في‭ ‬ماء‭ ‬بارد،‭ ‬للمرّة‭ ‬الأولى‭.‬
لكن‭ ‬ما‭ ‬يفعله‭ ‬فصلُ‭ ‬الشتاء‭ ‬بقطع‭ ‬حبل‭ ‬الوقت‭ ‬نهاراً،‭ ‬يسترده‭ ‬الوقتُ،‭ ‬قطعةً‭ ‬قطعةً،‭ ‬ليلاً‭. ‬لذلك،‭ ‬حين‭ ‬ينسحب‭ ‬ضوء‭ ‬النهار‭ ‬شتاءً،‭ ‬فإنه‭ ‬برغبة‭ ‬افساح‭ ‬مجال‭ ‬لعتمة‭ ‬قادمة‭ ‬لتأخذ‭ ‬مكانها‭ ‬في‭ ‬امتداد‭ ‬السماء،‭ ‬ولتزدرد‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬ضوء‭ ‬ودفء‭.‬
‭ ‬الشتاءُ‭ ‬ليس‭ ‬فصلي‭ ‬المفضل‭. ‬وعلاقتي‭ ‬به‭ ‬لاتزيد‭ ‬عن‭ ‬علاقة‭ ‬بضيف‭ ‬ثقيل‭ ‬يحلُّ‭ ‬عليكَ،‭ ‬قادماً‭ ‬من‭ ‬بعيد،‭ ‬ليطرقَ‭ ‬بابكَ،‭ ‬وليدخلَ‭ ‬مقيماً‭ ‬بصقيعه‭ ‬ليستحوذ‭ ‬على‭ ‬بيتك‭ ‬وبدنك،‭ ‬وما‭ ‬عليك‭ ‬سوى‭ ‬تحمّله‭. ‬
في‭ ‬ليال‭ ‬فصل‭ ‬الشتاء‭ ‬الطويلة،‭ ‬تنفتح‭ ‬الشهيّةُ‭ ‬للحكايات‭ ‬لتمارس‭ ‬سحرها،‭ ‬بغرض‭ ‬أن‭ ‬تنير‭ ‬ظلمة‭ ‬الليل‭ ‬في‭ ‬القلوب،‭ ‬وبهدف‭ ‬أن‭ ‬تدفيء‭ ‬أغصان‭ ‬ألأشجار‭ ‬العارية‭ ‬الساهرة،‭ ‬وعشب‭ ‬الأرض‭ ‬المقرور‭ ‬برداً‭. ‬
الحكاياتُ‭ ‬ساحرٌ‭ ‬يجيءُ‭ ‬حاملاً‭ ‬معه‭ ‬مستلزمات‭ ‬تساعده‭ ‬على‭ ‬أداء‭ ‬عمله‭ ‬بمهارة‭ ‬وأحتراف‭. ‬ما‭ ‬أن‭ ‬تطرق‭ ‬يده‭ ‬أبواب‭ ‬بيوتنا‭ ‬نستشعر‭ ‬الفرح،‭ ‬لعلمنا‭ ‬أن‭ ‬وصوله،‭ ‬وحلوله‭ ‬بيننا،‭ ‬سوف‭ ‬يشعرنا‭ ‬بالدفء،‭ ‬ويجعلنا‭ ‬نحسُّ‭ ‬بالأنس‭ ‬والأمان‭ . ‬الاحساسُ‭ ‬بالدفءِ،‭ ‬والشعورُ‭ ‬بالأنسِ‭ ‬والأمانِ،‭ ‬مهمتان،‭ ‬من‭ ‬عدة‭ ‬مهام‭ ‬أخرى،‭ ‬تسجل‭ ‬في‭ ‬رصيد‭ ‬وظيفة‭ ‬الحكايات‭. ‬
قبل‭ ‬أن‭ ‬يستاثر‭ ‬التلفزيون‭ ‬باهتمامنا،‭ ‬طوال‭ ‬ساعات‭ ‬النهار‭ ‬والليل،‭ ‬كانت‭ ‬الجدّاتُ‭ ‬والأمهاتُ‭ ‬من‭ ‬يقمن‭ ‬بمهمة‭ ‬الراوي‭ ‬–‭ ‬الساحر‭. ‬لكن‭ ‬الزمن‭ ‬تغيّر،‭ ‬واقتلع،‭ ‬من‭ ‬طريقه،‭ ‬الجدّات‭ ‬وحكاويهن،‭ ‬ولم‭ ‬نتحول‭ ‬بعد،‭ ‬نحن،‭ ‬أطفال‭ ‬ذلك‭ ‬الزمن‭ ‬البعيد،‭ ‬حين‭ ‬كبرنا،‭ ‬إلى‭ ‬رواة‭ ‬–‭ ‬سحرة‭. ‬
وربما‭ ‬لذلك،‭ ‬بقي‭ ‬ليلُ‭ ‬الشتاء‭ ‬الطويل‭ ‬ساهراً،‭ ‬وحيداً،‭ ‬ممتلئاً‭ ‬مللاً،‭ ‬ويفيض‭ ‬ضجراً،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬المدن‭ ‬التي‭ ‬تشبه‭ ‬طرابلس،‭ ‬والتي‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬خصومة‭ ‬مع‭ ‬طول‭ ‬لياليه،‭ ‬ولم‭ ‬تتعلم‭ ‬بعد‭ ‬تحوير‭ ‬فضاء‭ ‬ليله‭ ‬المعتم‭ ‬والبارد،‭ ‬إلى‭ ‬حياة‭ ‬دافئة‭ ‬تفيض‭ ‬حياة،‭ ‬،‭ ‬كما‭ ‬تفعل‭ ‬مدنٌ‭ ‬أخرى‭.‬
‮«‬رجعت‭ ‬الشتوية‮»‬‭ ‬تغني‭ ‬فيروز‭ ‬منبهة‭ ‬بحلول‭ ‬الشتاء،‭ ‬فيضيع‭ ‬صوتها‭ ‬في‭ ‬أزيز‭ ‬الرصاص،‭ ‬وقصف‭ ‬الطيران‭ ‬في‭ ‬ضواحي‭ ‬طرابلس‭ ‬الجنوبية،‭ ‬التي‭ ‬تحولت‭ ‬بيوتها‭ ‬إلى‭ ‬خرائب،‭ ‬وسكانها‭ ‬إلى‭ ‬نازحين،‭ ‬وصارت‭ ‬أحياؤها‭ ‬وطرقاتها‭ ‬عامرة‭ ‬باللصوص‭ ‬وقطاع‭ ‬الطرق،‭ ‬والقتلة‭.‬
شتاء‭ ‬ساخن،‭ ‬يقترب‭ ‬من‭ ‬طرابلس،‭ ‬بنار‭ ‬حرب‭ ‬لارابح‭ ‬فيها‭ ‬سوى‭ ‬تجار‭ ‬السلاح،‭ ‬والمخدرات،‭ ‬وذوي‭ ‬القلوب‭ ‬الحامضة‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يهمهم‭ ‬سوى‭ ‬السلب‭ ‬والنهب‭ ‬بغرض‭ ‬اثراء‭ ‬سريع‭ ‬مغموس‭ ‬في‭ ‬دم‭ ‬أناس‭ ‬أبرياء،‭ ‬وفي‭ ‬أحزان‭ ‬وآلام‭ ‬بلاد‭ ‬أضاعت‭ ‬بوصلتها،‭ ‬فأنقض‭ ‬عليها‭ ‬الأغرابُ،‭ ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬تبصر‭ ‬طريقاً‭ ‬يقودها‭ ‬إلى‭ ‬وفاق‭ ‬مع‭ ‬نفسها،‭ ‬وتصالح‭ ‬مع‭ ‬ذاتها،‭ ‬وإلى‭ ‬سلام‭ ‬يحفظها‭ ‬من‭ ‬هلاك،‭ ‬ويكون‭ ‬ملجأ‭ ‬للارواح‭ ‬وللنفوس،‭ ‬وللابدان‭ ‬التي‭ ‬تنام‭ ‬مقرورة‭ ‬في‭ ‬عراء‭ ‬ليال‭ ‬شتاء‭ ‬قاس،‭ ‬تحت‭ ‬سمع‭ ‬وبصر‭ ‬حكومتين،‭ ‬ومجلسين‭ ‬،‭ ‬ومصرفين‭ ‬مركزيين‭.‬
‮«‬رجعت‭ ‬الشتوية‮»‬‭ ‬تشدو‭ ‬فيروز،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يسمعها‭ ‬أحد،‭ ‬ولا‭ ‬يهتم‭ ‬بها‭ ‬أحد،‭ ‬لأن‭ ‬الجميع‭ ‬مشغولون‭ ‬بالجميع،‭ ‬في‭ ‬صراع‭ ‬دموي،‭ ‬لامكان‭ ‬فيه‭ ‬إلا‭ ‬لأصوات‭ ‬القذائف،‭ ‬وصراخ‭ ‬التكبيروالتهليل،‭ ‬ولا‭ ‬وقت‭ ‬فيه‭ ‬أو‭ ‬مكان‭ ‬لسماع‭ ‬بكاء‭ ‬الثكالى،‭ ‬وأنين‭ ‬أطفال‭ ‬أجهضت‭ ‬حيواتهم،‭ ‬وحرموا‭ ‬من‭ ‬الاستمتاع‭ ‬بطفولتهم،‭ ‬وتركوا‭ ‬يعانون‭ ‬اليتم،‭ ‬والبرد،‭ ‬والخوف‭. ‬
‮«‬رجعت‭ ‬الشتوية‮»‬،‭ ‬هذا‭ ‬العام،‭ ‬لتجد‭ ‬طرابلس،‭ ‬مدينة‭ ‬الضوء‭ ‬والدفء،‭ ‬غارقة‭ ‬في‭ ‬ظلام‭ ‬مقيت،‭ ‬وصقيع‭ ‬قاتل،‭ ‬ولتجد‭ ‬سكانها‭ ‬المسالمين‭ ‬في‭ ‬اشتباك‭ ‬يومي‭ ‬مع‭ ‬معاناتهم‭ ‬ومآسيهم،‭ ‬يتلتفتون‭ ‬بوجوه‭ ‬يائسة‭ ‬نحو‭ ‬كل‭ ‬الجهات‭ ‬لعلهم‭ ‬يرون‭ ‬بصيصاً‭ ‬من‭ ‬ضوء‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬عتّمته‭ ‬ضراوة‭ ‬حرب‭ ‬لارابح‭ ‬فيها‭ ‬سوى‭ ‬الموت‭ ‬والدمار،‭ ‬وما‭ ‬قد‭ ‬يرسخ‭ ‬مترسباً‭ ‬ومتوطداً‭ ‬في‭ ‬النفوس‭ ‬والقلوب‭ ‬من‭ ‬مواجع‭ ‬وحسرات‭ ‬وآلام‭.‬

 

شاهد أيضاً

زياد الذي لم ينس ريشه

مفتاح قناو منذ أن عرفته عن قرب في تسعينيات القرن الماضي، كان الكاتب الراحل زياد …