منصة الصباح
جمعة بوكليب
جمعة ابوكليب

لعبةُ “اللوي” في الفراغ

جمعة بوكليب

زايد..ناقص

” إلوي واشبح لقدام” مقولةٌ قديمةٌ، لكنّها عمليةٌ ومفيدةٌ جداً، لمن يستوعب مبكراً معناها، ويعمل بمقتضاه. والمقصودُ بها أن المرءَ، مثلُ راكب دراجة هوائية، لكي يحقق أهدافه في الحياة، عليه ألاّ يكون كسولاً، وألايضيّع الوقت في التوقف والالتفات إلى الخلف. بل يواصل المسير حتى يصل الجهة المقصودة، مما يعني تحقيق الهدف أو الأهداف المرجوة. الالتفات إلى الخلف قد يؤدي به إلى الاصطدام بعائق يؤدي إما إلى تعطل دراجته، أو إلى اصابته بجروح قد تؤدي إلى الغاء الرحلة وتوقفه نهائياً.

“اللوي” بذاته، رغم أهميته، لا يحقق المطلوب لوحده، في غياب الالتزام وأخذ الحذر بالنظر إلى الأمام، والتركيز على الطريق.

وفي مراحل مبكرة من عمري، اتخذتُ من تلك المقولة، أو الحكمة إن شئتَ، شعاراً لي، وأعترف أنها أفادتني جداً. ومن خلالها، تعلمت كيفية “اللوي”، على مهل، أو بسرعة، حسب حالة الطريق، وعدم التوقف والالتفات إلى الخلف، تحت اي ذريعة، ومتابعة المشوار بحرص وتيقّظ، أي بعينين مفتوحتين ومركزتين على الطريق. والعقلُ بوصلة.

وفي رأيي، فإن ما ينطبق على الفرد أو الأفراد ينطبق أيضاً على المجتمعات والدول. فالدول والمجتمعات التي تطيل التوقف والالتفات إلى الخلف يخترقها فيروس الكسل، وقد تصاب بداء العطن أو الشيخوخة المبكرة. تحقيق الأهداف، وعدم اضاعة الوقت، باللوي في الفراغ، أي المراوحة في المكان، ضرورة تستدعيها الحياة. ذلك أن المراوحة في المكان شكل آخر من أشكال عديدة للموت. والمجتمعات والدول التي تراوح في مكانها، تُعدّ في طور الأموات. ولا أعتقد أننا في حاجة إلى ضرب أمثلة.

الفرقُ بين الأفراد والمجتمعات والدول، فيما يتعلق بالمقولة أعلاه، هو أن المجتمعات والدول في حاجة إلى الامتثال إلى تلك المقولة والعمل بها دوماً. لكن الأفراد في مرحلة متأخرة من العمر، ربما يكتشفون أنهم في حاجة إلى استبدال المقولة أعلاه بواحدة أخرى مختلفة تتناسب وكهولتهم، وما تفرضه عليهم من عوائق.

ومن خلال تجربة شخصية يمكنني الجزم أن المرءَ منّا حين يصل العقد السابع أو الثامن من العمر، لن يكون في مستطاعه، بدنياً ونفسيا وعقلياً، مواصلة “اللوي” نهاراً وليلاً، كما كان يفعل أيام الشباب. ويجد أنه من الأنسب له أن يترك “اللوي” لأصحابه. ومن الأجدى له التوقف، وتعلّم فنّ “اللوي” في الفراغ، أي المراوحة في المكان. في تلك المرحلة العُمرية يصبح الشعار المرفوع:” العجلةُ من الشيطان.” والسبب لأن الجهة المقصودة معروفة، وقريبة المسافة جداً، وغير مرغوب حقاً في الوصول إليها. إذ كلما تأخر المرءُ قليلاً في الوصول كان، وباستثناءات نادرة، أحسن له وأفضل.

التوقّفُ، في ذات الوقت، لا يعني فقط التأخير المتعمد للوصول إلى خط النهاية، بل هو أيضاً فرصة لالتقاط الأنفاس والراحة، وكذلك الالتفات إلى الخلف بدهشة من يعيد اكتشاف نفسه، وكأنه يكتشف قارة جديدة، لمحاولة تجميع شظايا العمر المتناثرة، والتقاطها من مختلف الطرق والمحطات، والانغماس في ملاحقة ظلال الطفولة والصبا والشباب. الالتفات إلى الخلف، في تلك المرحلة من العُمر، يصبح متعة مستحبة، تتيح للمرء أن يختار ويستحلب، وعلى مهل، قطرات عسلها قطرة قطرة. وهو في ذلك مثل طفل أحاط به الضجر، يعثر على لعبة جديدة مسلّية، وجالبة للسرور والحبور. وعلى عكس ” اللوي والشبح لقدام” كونه بلا متعة، لأنه بلا هدف يرجي تحقيقه، ويؤدي إلى نهاية محتومة، ومعروفة مسبقاً، تعني التوقف نهائياً عن اللعب، والخروج من المباراة مطروداً بالبطاقة الحمراء.

شاهد أيضاً

حكايتان (2)

زكريا العنقودي   1-رحم المنامات !!   لم يعش سوى لحظات..لكن بكاه الجميع ، وحين …