منصة الصباح

السؤال.. عن الذي تغير. ______

براح محمود البوسيفي. ______

ويحكى أن قرويًا من الجنوب الإيطالي عاش في العقد الأول من القرن العشرين… لنقل أن اسمه أنطونيو مثلًا وأنه لم يعش في واقع الأمر حياة تليق ببني آدم.

لم يكن الفقر غريبًا في جنوب إيطاليا في ذلك الزمن (وهو أحد الأسباب الرئيسة في جريمة احتلال ليبيا بهدف توطين سكان جنوب إيطاليا في شمال ليبيا والتخلص من مشاكلهم)، لكن ما كان يعانيه أنطونيو كان جديرًا بتوصيف آخر ، فهو فضلا عن كونه لا يعمل عملا ثابتا، يسكن مشاركة مع زوجته وأطفاله الخمسة وأمه وأم زوجته وقطة اختفت ذات شتاء قبل أن يكشف أحدهم عظامها مدفونة في أحد زوايا الغرفة المكتظة بالجياع .. يتحول سقف الغرفة في الشتاء إلى منخل فشلت كل الطرق في وقف إغراقه لأرضيتها وتليين جدرانها
وفي ما يشبه الالتزام يخرج سكان الغرفة على تمام الثامنة صباحًا بهدف البحث عن لقمة مغموسة بالضنك.
راعي أبرشية القرية كان هو أهم شخصية في القرية، وكان بالتالي المستهدف دائما من أنطونيو بالشكوى والتذمر والتوسل .. وظل الرجل يستقبل ذلك بإبتسامة تشجع أنطونيو على الصبر وبأن الرب سيتدخل حتمًا لمساعدته فيما كانت حصة الشك في ذلك تتصاعد عند أنطونيو وهو ما أقلق الراهب.

ذات ليلة سمع سكان الغرفة، وهم يتكدسون إجهادًا من عناء يوم ثقيل، طرقات قوية على بابهم المتهالك.. هرعت إحدى العجائز لتفتح الباب وتخر مقبلة يدا بضه بيضاء، وهي تهتف أبونا.. أبونا… قبل أن يلحق بها الجميع للإحتفاء بزيارة الراهب الأولى لهم.. أين أنطونيو سألهم وهو يبتسم.. رد أنطونيو من وراء لحاف يفصل ثلث الغرفة.. أنا قادم.. ظهر، وهو يربط حزام بنطلونه الوحيد سيدي.. أبونا. وقبض على اليد الناعمة يمطرها بقبلات ممتنة.

ولأنه لا مكان بالداخل يليق باستقبال من ينتصب قبالة الباب اصطحبه خارجًا وهمس له: لقد جئتك في هذا الوقت لسبب واحد هو ثقتى اللا محدودة بك.. أنت وحدك من يحظى بثقتي في هذه القرية البائسة.. نعم.. قال أنطونيو وهو لا يكاد يخفي توتره.. نعم أبونا أنا في خدمتك وفي خدمة الرب.. اتسعت ابتسامة الراهب وقال وهو يطرح ذراعه على كتف أنطونيو .. لدي أمانة أرغب أن أودعك إياها وأعرف أنك ستحافظ عليها كأحد أبنائك (كان أنطونيو بالكاد
يحفظ أسماءهم) .. هذا الكلب المربوط هناك وهو من سلالة معروفة هو الأمانة. ضغط الراهب على كتف أنطونيو وودعه وهو يتمتم بالدعاء له ولعائلته المباركة.

تكررت زيارات الراهب للغرفة المسكونة بالجياع والرطوبة وتكررت معه أماناته التي كان يودعها في عنق أنطونيو. سحب معه مرة معزة وأخرى جرجر بقرة (فشلت العائلة في استحلابها) وثالثة سلحفاة قال وهو يسلمها إنها من فصيلة نادرة.. يحكي الجيران أنهم شاهدوا أنطونيو يشكو همومه لجدار قديم خارج القرية وشاهدوه أكثر من مرة يحدث نفسه وهو يحرك يديه غضباً.

ذات ليلة أغسطسية تتربع رطوبة قيظها في تفاصيل القرية سمع سكان الغرفة طرقات كانوا يعرفون مصدرها. غير أن الراهب اتبعها بنداء لأنطونيو: يا ابني يا أنطونيو ليس لدينا الوقت كله.. اخرج لي من فضلك الكلب والسلحفاة .. صاحبها على وشك الرحيل.. تناهى للراهب وهو يواصل الطرق صوتا ما يشبه الصغير الذي يعبر عن الفرح قبل أن يفتح الباب والكلب والسلحفاة على عتبته.

بعد أسبوع عاد الراهب للاستماع لذلك الصفير المبهج مع تصفيق جذلان وهو يسحب البقرة خارج الغرفة ويتمتم بالدعاء للعائلة السعيدة قبل نهاية الأسبوع التالي كانت ابتسامة أنطونيو تنافس ابتسامة الراهب وهو يسلمه المعزة العجفاء..

وقال الجيران إنهم لم يروا أنطونيو سعيدا كما رأوه هذه المرة… وكان يغني أغنية مرحة وهو يتقافز كأنه يرقص.

شاهد أيضاً

عيد الوحدة الوطنية

مفتاح قناو في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي كنا طلابا في المدارس الابتدائية، وكان …