منصة الصباح

صحائف اللامكان

محمد الهادي الجزيري

لنبدأ بهذه القصة الطريفة في فكرتها ، ففي ” قوالب الانتظار ” فكّر القاصّ في استغلال وقت الانتظار في إشارات المرور ، نظرا لتبرّم كلّ السائقين به ، فبدأ في تجميعه وتدويره من جديد قصد بيعه لكلّ مستعملي الطريق ، وفي النهاية يغلب مخزون الفائض فيسيل في الطرقات ..ويبقى الانتظار قائما ..، هذا ما رآه برهان المفتي :
” يرتفع مستوى سيل زمن الانتظار ، تدخل قوالب الانتظار في كلّ شيء في المدينة ، أرى حروفا وكلمات بنكهات مختلفة ممزوجة في هذا السيل القوي الذي يصبح فيضان زمن الانتظار، لا وجود للمجاري لتصريف كلّ هذا السيل…”

عديدة القصص المتبرّمة من الوضع الإنساني العام وحالة العالم المزرية ، ففي قصة أخرى اخترتها وهي بعنوان ” ذباب المدينة ” ، يسرد علينا القاص خبر عودة الشخصية من الحرب وقد بلغ الأربعين من عمره واستطاع أن يتعلم هواية جديدة متمثلة في جمعه للذباب في صندوق خاص بعد قتله والتفنّن في إقصائه من عالم الحياة ، ولكنه يتفطّن في نهاية القصة أنه أصبح شبيها لقتلاه ، قصة رمزية ذات دلالات عالية تعكس مدى قلق الإنسان من وجوده في هذا الكوكب الموبوء ..:
” نزع ملابسه وارتدى بدلته العسكرية المغطاة بتلك الأجنحة ، حتّى صار هو ذبابة عملاقة وسط هذه المزبلة ..وهو يحرّك يديه مثل جناح الذباب ، كان صوت طنين يديه تماما صوت من يسمع نكتة بذيئة ”

تناول المجموعة الكاتب المصري عبد النبي فرج ، وممّا قاله بعد تفكيكها والخوض فيها :

” قصص غريبة لخيال متوحش وقاسٍ في لغة مكثفة، حادة مباشرة كبلطة في جذع شجرة، تهزك من الداخل بعنف لتريك الحياة عارية من كل توشيه، حياة كابوسية ومزرية، قصص إنسانية، يغيب فيها المكان ويبقي فضاء عام ومناخ سوداوي ”

نعود قبل ختام هذه الجولة الخاطفة على ” صحائف اللامكان ” إلى البداية ، حيث تلاقينا قصة ” علبة الشموس ” بإيماءاتها ورموزها ، ومحتوى هذا المتن السرديّ تفاقم البرد والصقيع جرّاء ابتعاد الشمس ومعاناة الأهالي من هكذا وضع ، إلى أن حلّ بينهم بائع متجوّل يبيع شموس معلبة وتعطي الدفء ..ولكنها تنتهي بسرعة ولا بد من إعادة شحنها أو تبديلها ..، خلاصة القصة إنّ حالتنا النفسية تتدّخل في كلّ شيء ..، يكتب القاصّ :
” ..كنّا في وهم ، لم تكن تلك الشموس في العلبة غير ماء ساخن من النهر الذي اختفى ، ولم نترك خداعنا لأنفسنا برؤية الشمس فوق النهر إلا بوهم احتضان شموس نشتريها من بائع ونحن نسرع مُلَبين نداءه كلّ يوم ”
وأحسن ما نختم به هذه الاطلالة على هذا المتن الشيّق ، كلمة مقتطفة كتبها محمد جبير الناقد العراقي عن مجمل النصوص التي كتبها برهان المفتي ، وقد أعطاه حقّه :
” …ليست نصوصا قصصية سردية فقط وإنما هي نصوص رؤيوية تكشف الحاضر بإرث الماضي، وهي نصوص مغامرة وجريئة على مستوى التشكيل والمعنى، وهي ليست نصوصا توثيقية لحاضر ملتبس، وإنما هي أيضا تسجيل يومي برؤية طفولية مدهشة، تفضح وحشية هذا العالم وقذارة الفكر السائد الذي يسعى إلى تدمير البشرية وتجريدها من إنسانيتها وجمالياتها الخلاقة..”

شاهد أيضاً

حكايتان (2)

زكريا العنقودي   1-رحم المنامات !!   لم يعش سوى لحظات..لكن بكاه الجميع ، وحين …