منصة الصباح

البحثُ عن الوضوح الضائع

جمعة بوكليب

البحثُ عن الوضوح الضائع
____________

حال غيابُ الوضوح في أساليب الكتابة، منذ وقت طويل، بين الفلسفة والناس، ومازال قائماً. الفلسفةُ بريئةٌ من ذلك. واللومُ، من وجهة نظري، يقع على كاهل المشتغلين بها. ذلك الغموضُ في الأساليب قد لا يكون عفوياً، كما يُعتقد. وأغلب الظنّ أنه كان السبب في الهوّة التي تفصل بين أغلبنا ودراسة الفلسفة، أو متابعة ما يستجدّ على ساحتها من تطورات وآراء. وقرأتُ مؤخراً أن الفيلسوف الالماني هايدجر كتب ذات مرّة مؤكداً أن” الفلسفة ضبابٌ غير قابل للخرق. وإذا كانت الأفكارُ غيرَ واضحة، فيجب أن تُقبل كما هي بثقة.” وهذا تفسيرٌ غريب. إذ كيف تُقبل بثقة أفكارٌ غامضةٌ، يُستعصى فهمها! وباختصار، إذا غاب الوضوحُ تعسّر الاستيعاب. وهذه، كما نقول نحن في ليبيا:” ما تبّيش فقي.”
هناك مقولةٌ مشهورة تؤكد على أن لكل قاعدة استثناء. وفي هذا السياق، فإن الفيلسون الألماني آرثر شوبنهاور، حسبما قرأتُ، يشكّل الاستثناء بين الفلاسفة.
شوبنهاوركان يلقب بفيلسوف التشاؤم، وهو وصفٌ صحيح، لكل من صدف واطّلع على بعض كتاباته، أو سمع بها. وهو ملكُ الوضوح، من دون منافس. كان بشهادة أغلب الكتاب والفلاسفة أوضح من كتب من بين كل الفلاسفة الآخرين. والسبب، كما أوضحوا، لأنّه يريد أن يفهمه الناس. وسواءٌ اتفقنا مع آرائه أو أختلفنا، فإن ذلك الوضوح، وفقاً لآراء المختصّين، كان السبب وراء تميّز انتشار تأثيره في عديد من الكتاب والموسيقيين والفنانين، بل وحتى فلاسفة آخرين. فكان له تأثير واسع على موسيقي كبير هو ريتشارد فاجنر. وعلى روائيين كبار من أمثال توماس مان، جوزيف كونراد، بروست، تولستوي، وتورجنيف. ومن بين الفلاسفة كان الفيلسوف الالماني فريدريك نيتشه، أكثرهم تأثراً به. إلا أن نيتشه انقلب عليه فيما بعد، واتهمه بالتشاؤم. ويبدو أن اجادة شوبنهاور للغتين الفرنسية والانجليزية، وقراءاته الأدبية الواسعة لأهم أعمال الكتاب الانجليز والفرنسيين ساهمت في ابعاده عن أساليب الفلاسفة الألمان المثالية المستغلقة. وكان يقول إن الحقيقة تبدو في أكثر تجلّياتها وضوحاً حين تكون عارية. وكلما كان الأسلوب سهلاً زاد عمقه وتأثيره. وأن التفكير الانساني يكون في أصفى حالاته حين نفكر في أمر واحد، وليس عدة مواضيع في وقت واحد. وكانت نصيحته: أكتب بوضوح، وتفادى التشوش، وقُلُ شيئاً واحداً كل مرّة. الغريبُ أن الغموض وعدم وضوح الأسلوب ارتبط لدى الناس بالعمق في المحتوى. فالقاريء مثلاً لفلسفة هيجل، أو هايدجر، أو كانط، يشعر وكأنه داخل في متاهة معتمة ولا مخرج منها. والناس بدل أن ينسبوا عدم استيعابهم إلى غموض الأسلوب لدى أؤلئك الفلاسفة، ينسبوه إلى عمق محتوى أفكارهم!
من جهة أخرى، لو القينا نظرة فاحصة قليلاً، حول ما ينشر من كتابات، ليس في الفلسفة، بل في مجالات أخرى من قطاعات المعرفة، لاكتشفنا أن الغموض وعدم الوضوح والتشوش ظاهرة واسعة الانتشار.
وفي رأيي، أن أساس الوضوح في الأسلوب يعود إلى وضوح الفكرة، أو الموضوع في ذهن الكاتب، ومهارته وحرصه على الوصول إلى هدفه من أقصر الطرق، وأيسرها، من خلال لغة بسيطة ، تحيط بالفكرة وتقدمها بلا لف أو دوران. وكما أن الوضوح في الكتابة نابع من وضوح الفكرة في الذهن، فإن الغموض والتشوش في الكتابة نابع من غموض الفكرة وتشوشها في الذهن. والكتّابُ الجيّدون يعرفون ذلك، لذلك تجدهم يحرصون على عدم الاقتراب من الكتابة حتى تتضح الأفكار في أذهانهم. عندها يلجأون إلى تصميم خرائط طرق إلى أهدافهم، وتأتي الكتابة في آحر المطاف تتويجاً لعملية كاملة.

شاهد أيضاً

كل باثيلي وأنتم بخير

    ما هو الذي يمكن أن نعلقه في رقبة عبدالله باثيلي؟ الرجل لم يكن …