زايد…ناقص
جمعة بوكليب
في رواية ” الغريب” للكاتب الفرنسي الراحل ألبير كامو، تبدأ الروايةُ بهذه الجملة:
“ماتت أمي اليوم، أو أمس، لا أدري!” وتنتهي بهذه الجملة:” أتمنى أن يكون هناك حشدٌ كبير من المتفرجين يوم إعدامي، وأن يستقبلوني بصرخات الكراهية.”
روايةٌ تبدأ وتنتهي بالموتِ. لم أفطنْ لذلك حين قرأتُ الرواية في سنوات مضت. لكنّي، مؤخراً، حين أعدتُ قراءتُها انتبهتُ. تمعنتُ في الأمر، وقلت لنفسي ليس غريباً حدوث ذلك في رواية تتمحور حبكة أحداثها حول الموت.
الموتُ يأتي متنوعاً: ماتت الأمُ ميتة طبيعية في مأوى للمسنين. الشخص العربي أو الضحية مات مقتولاً بطلقات ناريّة على شاطيء بحر. والقاتل، بطل الرواية، أصدرت عليه محكمة حكماً بالإعدام.
على الغلاف الخلفي للرواية، كتب الفيلسوف الراحل جان بول سارتر هذه الجملة:” عندما نغلق الكتاب، ندرك أنه لم يكن في الإمكان أن يبدأ بصورة أخرى، وأن ينتهي نهاية أخرى.”
السؤال : هل قصد المؤلفُ ذلك بوعي أم أن الأمر حدث صُدفة؟
الجواب: لا صُدفة في الفن.
2
الموتُ حاضرٌ وبوفرة هذه الأيام في مدن أوكرانيا. أوكرانيا تحولتْ من بلاد إلى مقبرة كبيرة. مدنها العامرة تحولت في أسابيع قليلة إلى مقابر وأنقاض. الموتى أوكرانيون وروس يمثلون الطرفين المتحاربين. لكنّ الموتَ لا يفرق بينهم. انمحتْ الفروقُ بين الغزاة والمدافعين على بلادهم. فقدوا جميعهم أسماءهم وجنسياتهم وأحلامهم، وصاروا أرقاماً تسجّل في احصائيات، تُنشر في وسائل إعلام ليست محايدة. أتخيّلُ عدالةَ الموت مُجسّدة في تمثال امرأة معصُوبة العينين، ولا تحمل سيفاً، بل تمسك في يدها بميزان بكفتين متساويتين. عدالة المحاكم الأرضية يجسّدها تمثال امرأة معصوبة العينين أيضاً، لكنّها بيدين: واحدة تُشهر سيفاً، وأخرى تحمل ميزاناً بكفتين….. غير متساويتين!
3
كلما اشتد بيننا نقاشٌ على ضرورة بيع شقتنا في الظهرة، والانتقال إلى جهة أخرى، والعيش في بيت واسع وحديث، ترفضُ أمي بشدة فكرة الرحيل والابتعاد عن جيرانها وأحبابها. وكنّا كثيراً ما نُضيّق، أنا وأخوتي، عليها الخناق بغرض تغيير رأيها. وللهروب من الحصار، كانت أمي تعمد إلى القول بأنها لا تملك بيتاً، ولا تريد بيتاً، ولا تعرف أين سيكون بيتها: وتقصد بذلك أنها لا تعرف أين سيكون قبرها. هذه الجملة، تحديداً، كانت تضطرنا إلى فك الحصار، والتراجع.
هزمتنا أمي بتذكيرنا بحقيقة كثيراً ما تعمدنا نسيناها:
الموتُ، الذي تسميه شهرزاد هادم الملذات، واقفٌ لنا بالمرصاد.
4
بعد ثورة فبراير 2011 عرفنا الموتَ معرفةً شخصية. صار يقيم بيننا. يأكل معنا، ويتمشى في الشوارع معنا، ويسهر معنا في المرابيع. لكنه لدى انتهاء السهرة كان حريصاً ألا يعود وحيداً إلى حيث يقيم. وكنّا نحن نحزن لغياب من رحلوا. وبعضنا يبكي. لكن بمرور الوقت، تَحجّر دمعُنا. وتعودنا على رحيل الأحبة، ورفقة الحزن، كما تعودنا على رفقة هادم الملذات.
5
مهما بحثنا في قاموس الجهاديين، لن تقابلنا مفردة الموت. عدم وجود الموت كمفردة، يعني عدم وجوده فعلياً في أذهانهم وفي واقعهم. الحياة بالنسبة لديهم اثتنان. حياة دنيا فانية وهي الأدنى، وأخرى عليا خالدة وهي السامية، ولا شيء بينهما. هذا الإيمان، يجعل التوق للحياة العليا الخالدة، في حالة توهج دائم. لذلك يسارعون إليها بكل الوسائل. الفيلسوف اليوناني أرسطو في تعريفه لفضيلة الشجاعة يرى ذلك تهوّراً. ويقول إن من لا يخاف الموتَ في الحرب تنتفي عنه الصفة البشرية. أرسطو لم يكن يعرف أن زمناً سيأتي لا تكون الموتُ فيه مفردة مشمولة بالرهبة والخوف، ومحذوفة كليةً من المعجم الحياتي لبعض البشر.