منصة الصباح

من حكايات الباحثات عن عمل.. فتيات يبحثن عن ذواتهن في زمن العتمة

رصد: كوثر الفرجاني

  • السماء لا تمطر ذهبا، وفرص العمل متاحة لمن سيشمر عن ساعديه.
  • الذين ينتظرون أن تمطر السماء وظائف، للأسف، سينتظرون للأبد.

 

قصة نهديها لكل باحث عن عمل،، لفتاة ليبية بحثت عن ذاتها في زمن العتمة، وأخرى صاحبة تجربة رائدة تستحق الاحترام والتبجيل، والانحناء والتقدير، ليس لأنهما استطاعتا أن تنجحا في تأمين مورد للدخل، أو مكسب مادي جعلهما تستقلان ماديا، ولكن لأنهما استطاعتا كسر الحاجز الذي لم يتمكن العديد من الشباب، بل ولم يجرؤ أي شاب ليبي على الاقتراب منه، كسرتا مفهوم العيب لدي أصحاب المؤهلات العليا، الذين لا يفكرون في خوض تجربة العمل خوفا على “برستيج”، أنهم أصحاب شهادات ومؤهلات عليا، ولأن هذا هو المفهوم السائد لدي أغلب شبابنا وفتياتنا، فإن النتيجة هي الذهاب إلى المكان الطبيعي والمعروف، طابور العاطلين ، وكأن الجامعات الليبية تعطي الشهادات للوقوف بها على نواصي الطرقات والمقاهي، وفي أضعف الإيمان للقعود في البيت.

بطلة قصتنا الأولى، “حنان” فتاة اختارت أن تتجاوز ما تعارف عليه بثقافة العيب، وانطلقت دون هوادة لتقتحم بعزم وشجاعة لبوة، بحثا عن مهنة تقيها ذل السؤال.. آثرت النهوض بمستواها المعيشي، وأن تحقق استقلالها ماديا، لتساهم وتساعد، وتمد يدها لتعطي لا لتأخذ، والمفارقة أنها اختارت مهنة ظل شائعا أنها لذوي المؤهلات المحدودة أو الأميين، أو هي حكر على العمالة الوافدة.

بداية القصة

مثل أي فتاة تخطت مرحلة الدراسة، من جامع أبومنجل، لتبدأ رحلة المشاق في البحث عن عمل، وبدأت معها سنة التفكير في كيفية الحصول على وظيفة حسب تخصصها في التربية القرآنية والإسلامية، سدت جميع الطرق في وجهها، وقيل لها: لا وظائف شاغرة، لا وجود للتعيين في القطاع العام، لا وجود لجهات حكومية تقبل هذا التخصص، فما كان منها إلا أن سطرت أول سطر في رحلة الكفاح، وبدأت في شق طريقها، ودون تردد، رفعت شعار النظافة من الإيمان، وخاضت التجربة، والتحقت بالعمل في وظيفة بصفة عاملة نظافة، وهي مليئة بشعور غريب استحوذ عليها أن في عملها تفردا وإبداعا، وعلى المجتمع أن يتقبل ويحترم اختياراتها برحابة صدر، فلقد اختارت الطريق الصحيح، وتعتبر أن عدم رفض عائلتها هي خطوة لدعمها، وخطوة نحو محاربة الذهنية التي تنتقص من بعض المهن، وتنظر لها وللعاملين فيها نظرة دونية أو احتقار.

وتلاحظ ذلك حين تحاورها وهي تجيبك بصوت يتأجج تصميما:

– أحب المغامرة، وأعشق خوض التجارب غير المألوفة، العمل واجب وحق.

وتقول:

– إن اختيارها لهذا العمل لم يكن عبثيا، إذ أنها استشارت المقربين منها، وبعد عدة مشاورات مطولة قررت المضي قدما لتقتحم مجاهل هذا العمل.

وترى حنان أن المرأة اليوم عنصر فاعل في تحسين المستوى المعيشي، وتدعو كل النساء إلى اقتحام أي مجال للعمل مالم يتعارض مع ديننا أولا، ومع عاداتنا وتقاليدنا، ويوفر لهن ولعوائلهن لقمة العيش الحلال، وتنصح كل باحث عن عمل، بعدم الترفع والتعالي على العمل، والركون إلى المقاعد المرفهة والكراسي والمكاتب المكيفة، فأي تجربة تعطي براحا لأفكار متجددة، أو باب رزق من حيث لا يحتسب، مشيرة إلى أن عملها في مجال النظافة جاء بعد أن اقترحت عليها صديقتها العمل في إحدى الشركات الخاصة بالنظافة، التي تتيح لها العمل في إحدى الدوائر الحكومية، ولأن صديقتها كانت معها، قررت خوض التجربة، مع توفر عامل مهم للأريحية والاطمئنان والرفقة، وكان ما كان، وطوال سنتين من العمل المضني والشاق، إلا أن وجود صديقتها وتعاونهما بالعمل معا كان كفيلا بأن يخلق لديهما إصرارا على الاستمرار.

وتحكي بألم بالغ عن:

– الكثير من المواقف التي لا نقف عليها، ولم تدفعنا إلى التوقف، بل زادتنا إصرارا.

الحالة الثانية لنجاة، خريجة الفندقة التي كان من المفترض أن يكون مجال تخصصها مطلوبا في سوق العمل، ولكنها انضمت إلى قائمة المنتظرين، لتلتحق هي الأخرى بباب الرزق الذي فتح أمامها، مشيرة إلى أنها تستيقظ من الصباح الباكر لتبدأ عملها دون كلل أو ملل داخل بيتها وخارجه، مشيرة إلى أن عملها ليس فيه ما يعيبها أو يشينها، فالعمل الشريف لا ينتقص من قيمة الإنسان، بل العيب البقاء عالة على الآخر، تمد يدك متسولا.

وتقول نجاة:

– العيب هو مد اليد للآخرين، وعلى أشياء الآخرين، فأنا لدي أطفال يحتاجون إلى مأكل وملبس، خاصة بعد أن فشلت في الحصول على وظيفة بالمؤهل العلمي الذي درسته، وعن بداية التحاقها بالعمل قالت:

– الأمر جاء صدفة، فكرت بتروي وعقلانية، وأنا الآن أقوم بعملي بقناعة تامة، وذلك لسببين اثنين، الأول تحسين المستوى المعيشي وسد نفقات الحياة الصعبة، والثاني أن العمل يعطيك استقلالية، ويقيك من الأزمات النفسية والإحباطات، لقد أدميت قدماي في سبيل الحصول على وظيفة، ولم أترك جهة حكومية إلا وتقدمت إليها ووضعت فيها ملفي، ودعمت تخصصي بدورات على حسابي الخاص، كانت أمي تستقطع تكاليفها من مصروف المنزل، ولكن جميع الأبواب أغلقت في وجهي.

رغم التعب والمجهود والعمل الشاق، في سبيل لقمة العيش الشريف، في وسط تكرست فيه ثقافة قاصرة تعيب عمل النظافة، وحيال العديد من المهن، وهو ما يبشر ببزوغ متحدي في بلد نفطي تحسنت فيه ظروفه المعيشية قليلا، مما دفع سكانه إلى الركون للكسل ، والتأفف والترفع عن الكثير من المهن التي تشكل طوق النجاة من الضغوط المادية المعيشية، وكذلك درءاً لمشاكل قد تنجم عن العاطلين عن العمل من الحاصلين على مؤهلات عليا، أجبرتهم ندرة الفرص الوظيفية على امتهان العمل في مجال تخصصهم، لقد ضربن مثلا رائعا في تحدي البطالة، وتخطي الحاجز النفسي وكسره، وهو شيء يدعو للفخر ، فتاة تعول نفسها وتأكل من عرق جبينها.

اسمان على مسمى

حنان و نجاة، اسمان على مسمى، حنان فائق تخطى الحدود، ونجاة، طوق النجاة، نموذجان رائعان، للأيادي المخلصة التي تسكب العطاء للجميع، تؤمنان بأن الحياة تتطلب العمل الشاق والمضني، ولكل إنسان نصيبه وحظه من الدنيا، وإذا لم يشعر أي إنسان بأهمية عملهما، ولم يحركه إحساسه الإنساني، فعلى الدنيا السلام.

فليس من الضروري أن يكون أبناء الوطن كلهم أطباء ومهندسين ومدراء، لنحصل على وظيفة، أو عمل، فإذا ترفع أغلب المواطنين عن الوظائف الخدمية من سيقوم بها؟ وعمل النظافة يدخل تحت هذا السياق، ستنتشر الفوضى والنفايات والقاذورات وستلوث البيئة، فهذه النظرة القاصرة لعمال النظافة هي مرض اجتماعي لابد من استئصاله من جذور ثقافتنا الاجتماعية الهشة، التي قامت على أسس تنظر للأعمال الخدمية نظرة دونية !

بث الوعي

للوصول إلى رؤية دقيقة حول هذه القضية الجوهرية والتي تمس قطاعا حيويا في المجتمع، والذهنية الليبية بالخصوص كان هذا اللقاء مع  الدكتورة ( نرجس الأمير) طبيبة أسنان ومدرب تنمية بشرية، التي قالت :

– لتغيير نظرة المجتمع لهذه المهن لابد من وقفة، وهذا التغيير لا يكون بالمحاضرات والأقوال، بل من خلال بث الوعي في عقلية الأفراد والمجتمع ككل، وأن يكون التغيير قولا وفعلا وممارسة، فلو بقت حنان ونجاة قابعتان خلف الجدران، ما انفتح لهما باب الرزق، ، لو لم يقتحما العمل بإصرار وقوة ما تحصلن على عمل. مضيفة: عندما نحترم مثل هؤلاء، ونقدر تعبهم ولا نزيد في شقاءهم، عندها سترتسم الابتسامة على وجوههم، ولن تكون هناك حالات تختبئ خجلا وخوفا من نظرات لا ترحم، بل لتكون صورا مشرفة تظهر على واجهة المجتمع كقدوة ومثلا أعلى، ولأن النظافة من الإيمان، ومعيار لتقدم الأمم، لابد أن يكون هناك من يعمل لننعم ببيئة نظيفة وصحية، ولأن العمل عبادة والعمل الشريف سمة الشرفاء، كان لابد أن يكون هناك من ينضم إلى صفوف المجاهدين والمكافحين، فالعمل شيء مقدس لدي كل الأمم والشعوب، وهو ليس عيبا مهما كان..

وتؤكد: لكل عمل مهما كان كبيرا أو صغيرا أهميته، ومثلما هناك مسؤول في أكبر قطاع على مستوى الدولة يرعى شؤون البلاد والعباد، فإننا بحاجة إلى موظفين وعمال في جميع المجالات ومن الجنسين، ومن هنا تنبع أهمية المهن الخدمية ودورها في المجتمع، رغم أنها تصنف في الغالب بسبب قصور في الإدراك والتفكير، بأنها من المهن الوضيعة اجتماعيا، ينظر لها دوما بنظرة قاصرة ودونية في مجتمع يتعالى على الأعمال الخدمية، وتحكمه نظرة ضيقة، لا تدرك أن المهن بتنوعها تشكل المجتمع بوحدة متماسكة كل منها يكمل الآخر، فهل تخيلتم حجم الكارثة البيئية التي ستلحق بنا لو توقفت أعمال النظافة في شوارعنا ومؤسساتنا يوما واحدا؟ هل سندرك حينها أهمية عمل النظافة وحاجتنا إلى يد نظيفة عفيفة حملت على عاتقها مهمة تجميل أماكن عملنا وأجواءها وتطهيرها وتعقيمها؟

السلم الاجتماعي

كيف يرصد الإعلام هذه الحالة؟ والعمل كقيمة من يحددها؟ وهل ممارسة نوع من الأعمال تحدد قيمة الإنسان؟

عن هذه التساؤلات تجيبنا المستشارة الاعلامية السابقة بوزارة العمل والتأهيل الأستاذة ( نعيمة الطاهر) قائلة:

– للأسف نحن نقسم المهن إلى راقية ودونية، والسلم الاجتماعي نحن من صنعه، كما اعتدنا النظر للعمل كقيمة بقدر ما ينتجه الإنسان من عمل مهما كان كبيرا أو صغيرا، في حين ينبغي النظر إلى القيام بالمهنة بالصورة التي تتطلبها أخلاقيات المهنة، وعلينا أن نصل إلى مرحلة نحترم فيها كل شخص منتج يعمل بشرف، لا يوجد عمل نحن بحاجة له وآخر لا ضرورة له، نحن نحتاج إلى كل المهن الخدمية، ووجودأرباب هذه المهن في المجتمع أهم من وجود المدراء والرؤساء والوزراء، وعمال النظافة يقومون بعمل يعجز عنه الكثيرون، لأنهم يجعلون من حياتنا وبيئتنا نظيفة خالية من الأمراض والأوبئة.

وتضيف:

إن الظروف المعيشية الصعبة قد تدفع الإنسان للبحث عن فرص عمل تساعده على تحسين مستواه المعيشي، وكذلك تفيد مجتمعه، وهناك، رغم الظرف المادي، من تجده يحتقر هذه المهن خوفا من نظرة المجتمع لعامل النظافة… ولهذا فبقاء الطاقات معطلة أمر لا يفيد المجتمع، بل يضره من خلال الظواهر التي قد تنجم عن هذا الفراغ، والترفع عن بعض المهن أمر فيه نوع من التأخر والقصور في التفكير، أو القصور في الإدراك.

ختاما…

بالفعل، هؤلاء هم أبطال وصناع التغيير، حفظوا كرامتهم وعزة ناموسهم، بدل أن يمدوا أيديهم، والتاريخ فيه العديد من سير العصاميين، الذين لم يصلوا إلى المجد إلا لأنهم بدأوا من الصفر.

نقول لهؤلاء أمراء أنفسهم، ممن فكوا قيود اليأس، وأناروا حياتهم بالتفاؤل، واتجهوا للشرف حاملين رايات الأمل غير مكترثين بنباح المثبطين للعزائم، نقول لهؤلاء:

سلمتم وسلمت أياديكم، ولكم منا أسمى آيات الشكر والاحترام، ولكل من يعمل بكد وجد وإخلاص، للحصول على قوت يومه بشرف وعزة وعلى رأسهم عمال النظافة، وندعو ل (حملة نظافة) تشمل جميع فئات المجتمع ليعود وجه البلاد براقا مشرقا، وحملة (دعم وتكريم) لكل من حمل (مكنسة) ونقول له كل رزقك حلالا زلالا طيبا.

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …