زايد..ناقص
جمعة بوكليب
على غير العادة، حين وصلتها صباح الخميس الماضي، وجدتها باردة وممطرة. بدت لي مستسلمة في صمت ملحوظ لبرودة فصل الشتاء، وآلاعيبه المضجرة والمملة. صحوُ سمائها وغوايةُ زُرقتها، وأحسرتاه، لم تكونا في استقبالي ضاحكتين مستبشرتين. زُرقتها الدافئة المغرية اختفت متلاشيةً، وراء رماد وكآبة غيوم ثقيلة متجهمة. وجدتُ ليلها بارداً جداً، وساكناً سكون المريب.
طرابلسُ مدينةٌ عتيقة، من ألف عام وعام. ورغم أنّي عرفتها منذ الصغر تتفتح كوردة الحب مع أول اشراقة نور الصباح، تجاهلتني هذه المرّة، وكأنها لم ترني مطلقاً. وأنا لم أفعل شيئاً يستحق ذلك التجاهل غير المنصف والمؤلم. وكل ما فَعَلَتَه هو أنّها وقفتْ تنظر إليَّ بغرابة واسترابة، وكأننا لم نكن عاشقين في وقت ما، ولم نتذوق معاً من أنخاب كؤوس العشق المُسكرة. هذه المرّة، لم تفتح شفتيها، ولم تقل مرحباً بالحبيب بعد غياب، ولم تهرع راكضة إلى لقائي، وتضمّني إلى صدرها الدافيء: لماذا؟ وهل هذا جزاءٌ يليق حقاً بمحبّ، كان عاشقاً لها ومازال، ولم تعد تبادله حبا بحب؟
أعرف أنها مثلي، تغلق كل أبواب قلبها أمام فصل الشتاء. طرابلس، لمن لا يعرف أو يتناسى، أويتجاهل، ابنة الضوء والدفء والصحو، ابنة الصيف وحبيبته بإمتياز. وأنا مازلتُ مثلها. هذه الزيارة الأخيرة، جئتها صباحاً، على جناحي الشوق، طائراً من قاهرة المُعزّ، تاركاً ورائي، غير نادم، زحام القاهرة وسُخام تلوثها وضجيجها، آملا أن أحظى بدفء حضنها، وأتدفأ بما في قلبها من حبّ.
علاقتي بمدينة القاهرة ظلت، على مدى السنين، تتسم بالسطحية، وبكثير من اللامبالاة من الجانبين. وحين نلتقي مرّة كل عام، نقف متباعدين، ويتمتم كلانا بمجاملات شبه رسمية، خالية من دفء الصحبة. وهي بذلك لا تختلف عن غيرها من مدن العالم الكبيرة والمزدحمة في علاقتها بالغرباء . وفي زيارتي الأخيرة، ” وجعني حالها”،لأني وجدتها تعاني من آلام التضخم، والغلاء، ولا تكفُّ عن الشكوى. الأمر الذي يضطر زائرها إلى ابداء التعاطف معها، والدعاء إلى الله أن يزيل كربها.
الفرق بينها وبين طرابلس، هو أن الأخيرة رغم صغر مساحتها، وقلة سكانها مقارنة بالقاهرة وضجيجها، تتمتع بقلب مختلف، ربما يكون أكبر مساحة. لكنه، وهذا غريب، يتميز بكونه غير متسامح، وبشكل لافت.
القاهرة، في رأيي، تكاد تكون مدينة بلاقلب. فهي لا تعترف بأحد، ولا ترى أحداً ولا تهتم بغير نفسها. ومن يعرفها، يعرف أنّها مدينةٌ لا وقت لديها تضيّعه في المجاملات. وحين غادرتها في ساعة مبكرة من يوم الخميس الماضي، كانت شوارعها خالية من ضجيج البشر والمركبات. وفي سكون الفجر لا شيء بها يلفت الانتباه سوى حضور مكثف لبوابات الشرطة المنتشرة في كل مكان، بشكل يوحي للزائر الغريب أن المدينة تعيش في خوف لا يخفى، يعقد لسانها. وأن التوتر الأمني اللافت يسيطر عليها ويربكها. وأنها لم تعد إلى سيرتها الأولى، التي عُرفت بها عبر عصور التاريخ. ربي يلطف بحالها.