منصة الصباح

مدارس

 

 جميلة الميهوب

كان الجو ماطراً. برْد وريح، كالعادة في مدينة فكتوريا. الأيام الأولى لالتحاقي بالشغل في المدرسة. أول شيء أفعله عند دخولي وجلوسي على المكتب، أفتح الكمبيوتر وإيميل الشغل الذي هو وسيلة الاتصال بين الموظفين أثناء الدوام.

أحد الإيميلات يقول:

“توجد وجبات خفيفة في حجرة المدرسين.”

الحمد لله، استرحتُ من طلعة الغداء والبحث عن مقهى أو مطعم في هذا الصقيع. في الساعة المخصصة للغداء سألتُ زميلتي، كانت منهمكة في شغلها، عن مكان حجرة المدرسين؟ أشاحت بوجهها عن شاشة الكمبيوتر، عيونها في عيوني بكل تركيز واهتمام، وبابتسامة هادئة رصينة أشارت بيدها إلى حجرة وقالت:

ـ جميلة، الحجرة فيها بابان. الباب الذي ترينه، وباب آخر في نهاية الغرفة يفتح على الممر الآخر للمدرسة. الباب في هذا الوقت مفتوح غالباً. إذا وجدتِه مغلقا، إليكِ الرقم السري.

كتبت لي الرقم في ورقة صغيرة ناولتني إياها. شكرتها وانصرفت.

كان الباب مفتوحاً. تقدمت بحذر شديد وبخطوات بطيئة. الهدوء يعمّ المكان. تقدمت بحذر أكثر وأكثر. غرفة طويلة، مكاتبها مقابلة لجدرانها الأربعة. مقابل كل مكتب، وفي مستوى اليد، أرفف بسيطة مليئة بكتب وملفات وأوراق. المكاتب طاولات مستطيلة صغيرة متلاصقة. الرفوف مفصولة بفواصل واضحة، وهدا يساعد على إدراك الحيز الخاص بكل مكتب على حدة. على كل مكتب ورقة صغيرة مطبوع عليها اسم المدرّس. على معظم الطاولات يوجد لاب توب. حوالي أربعة مدرّسين في الحجرة. باقي المكاتب كانت شاغرة. الأربعة كانوا منهمكين في أوراقهم وكتبهم، وما من أحد شعر بدخولي.

قلت: مرحبا.

ردّوا جميعا بكل اهتمام وابتسامة عريضة:

ـ مرحبا جميلة.

استغربت كيف يعرفون اسمي، وأنا ما زلت لم أحفظ أسماءهم.

واحد من المدرّسين شعر بارتباكي وتردّدي، كما بدا لي. وقف وقال:

ـ هيّا، جميلة. أنا أيضاً لم أتناول وجبتي بعد. تعالي نتناول وجبتنا مع بعض.

أنا الحقيقة لم أرَ أو أشم أي رائحة أكل. مشيت وراءه في اتجاه الباب الآخر للحجرة. توقعت أن الطعام في مكان آخر خارج الغرفة. سمعته يقول:

ـ هيّا، جميلة. ـ وأشار بيده إلى ركن الحجرة.

طاولة صغيرة مستديرة، مرتفعة بحجم الطاولات الجانبية في صالونات الليبيين. الطاولة التي بالكاد تتسع لأكثر من سفرة قهوة، عليها كيس (تشيبس)، وكيس (سبول)، وآخر صغير فيه مكسّرات، و(صوينية) فيها قطع صغيرة من الجزر، إضافة إلى صحون ومناديل ورقية.

وانا مندهشة أخذت صحناً وأدخلت يدي في كيس (السبول). في نفس اللحظة أدخل زميلي يده في كيس (الشيبس)، وفي نفس اللحظة خرجت يدانا من الكيسين. يدي كانت مليانة (سبول) حتّى وقع مني. وهو أخرج ثلاث شرائح (تشيبس) صغيرة بين أصابعه.

رجعت للمكتب وسرحت بخيالي في حجرات المدرّسات في ليبيا، وفي الوجبات التي كنا نتناولها فيها.

معهد معلمات الزاوية. حجرة المدرّسات كانت في أقصى المدرسة، في مكان شبه معزول بالكامل عن باقي مباني المعهد. أتذكر العصيدة بالرب التي زوّدتني بها أمي في جو ماطر وأخذتها للمدرسة. كنّا نأكل ونضحك مستمتعات، والراديو مفتوح، والأغاني تصدح.

مدرسة الزاوية الثانوية. أكلت بازين مع المدرّسين والمدرّسات في حجرة المدرّسات التي كانت مقابلة لمكتب إدارة المدرسة. كان عرس أخٍ لزميلتنا.

مدرسة النجيلة. الجوع والفقر والكفاف. لا أذكر أني رأيت فيها ولو فنجان قهوة. لم يبقَ في ذاكرتي إلا وجوه المدرّسات البائسة الشاحبة والحزينة.

آخرالذكريات كانت في حجرة الأساتذة في جامعة الزاوية، كلية التربية، قسم اللغة الإنجليزية:

كنت جالسة مع مجموعة من الزميلات. دخلت علينا مجموعة شباب مسلحين. قاموا بلفّة في الحجرة وانصرفوا.

شاهد أيضاً

أمازونات الزراعة: ليبيات يعدن إلى الأرض

تقرير / ريما الفلاني – الصباح لم يخطر على بالي وانا اتجول في أروقة  “  …