بقلم / سليم يونس
يمكن القول أن ضريبة «الواتساب التي فجرت الانتفاضة الراهنة في لبنان، كانت بمثابة « القطرة التي أفاضت الكأس» ، وحركت الشارع اللبناني المتجاوز للطوائف والمذاهب والمناطق والأحزاب وعائلات الإقطاع السياسي التي ظهًّرت نفسها في أحزاب، هيمنت على الحياة السياسية في لبنان طوال عقود، في انتفاضة شعبية أكدت حالة التمرد على ما يسمى بالديمقراطية اللبنانية، وهي كذبة كبرى جرى الترويج لها لبنانيا وعربيا.
كون لبنان نظاما طائفيا تحكمه عائلات الإقطاع السياسي والقوى المهيمنة في طوائفها، فلا أساس للمواطنة السياسية ذلك أن المعيار هو من أي طائفة أنت؟ أي دون اعتبار للمساواة في المواطنة ربطا بالحقوق والواجبات.
هذا النظام الطائفي بامتياز جعل العائلات السياسية في أطار طوائفها تهيمن على مقدرات الدولة باعتبارها حقا مكتسبا ، فاستشرى الفساد في كل الشريحة السياسية الحاكمة، حتى وصل الأمر أن الأحزاب أصبحت تُورث كذلك، فكان من الطبيعي رغم الصراعات والمناكفات بين تلك العائلات السياسية أن يتحالف الجميع على سرقة خيرات لبنان، وفق منظومة القوانين والتشريعات التي تمكنهم من ذلك.
وجذر هذا الفساد يتعلق بالتقسيم السياسي الطائفي للسلطة الذي ينعكس على كل مواقع المسؤولية في الدولة من الأمن إلى الجيش إلى القضاء، بين المذاهب والطوائف، لينتج بدوره دائرة جهنمية من التقاسم الطائفي ، جعل من المواطنة حلما بعيد المنال، ولاشك أن هذا الواقع هو من أنتج كل هذا الفساد الذي يعيشه لبنان ، وهو من ثم وراء حالة الإفقار التي طالت أغلبية اللبنانيين.
هذا الجو العام أنتج طبقة سياسية عائلية حزبية فاسدة تغولت خلال السنوات الماضية، وهي من أنضجت ما يمكن القول أنه « حالة ثورية» ، كانت تنتظر القطرة الأخيرة ليفيض «كاس» غضبها المتراكم طوال سنوات ، رفضا لكل ما هو قائم على أساس أن التجربة السياسية لجموع المنتفضين في كل ربوع لبنان تؤكد أن هذه الطبقة السياسية بقواها وأحزابها ودون استثناء كاذبة ولا يوثق بها، ويجب أن ترحل كمنظومة سياسية كاملة لأنها سبب كل ما يعيشه لبنان من تفاوت طبقي وإفقار لأغلب مواطنيه.
واللافت في هذه الانتفاضة أن المنتفضين تجاوزا كل ما يمكن القول أنها « تابوات» مذهبية أو سياسية ، برفع شعار رحيل كل الطبقة السياسية دون استثناء والتشديد على» دون استثناء» ، بمعنى أن الجمهور المنتفض رفع سقف المطالب نحو التغيير الجذري لكل القائمين على السلطة مجلس نواب ووزراء ورئيس الجمهورية.
وهذه رسالة بالغة الدلالة من الصعب معها أن يقتنعوا بمحاولات فريق الطوائف الحاكمة بجدوى الحديث عن إصلاحات، لأن المنتفضين يعتقدون أن زمن الإصلاح قد أصبح من الماضي، كونه كيف لطبقة حاكمة يتهمونها بالفساد والسرقة والعجز عن تنفيذ نص دستوري بإلغاء الطائفية أن تقدم حلولا في ساعات، وهي التي عجزت عن ذلك طوال عقود.
وكان اتفاق الطائف الذي شكل دستوراً ما بعد الحرب الأهلية قد نص على «إلغاء الطائفية السياسية « و»اتخاذ الاجراءات الملائمة لتحقيق هذا الهدف وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية. مهمة الهيئة دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلسي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية»
التي تتمحور حول :
أ- إلغاء قاعدة التمثيل الطائفي واعتماد الكفاءة والاختصاص في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة والمصالح المستقلة وفقا لمقتضيات الوفاق الوطني باستثناء وظائف الفئة الأولى فيها وفي ما يعادل الفئة الأولى فيها وتكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة.
ولذلك فإن المنتفضين يعتقدون أن جميع من حكم خلال الفترة الماضية مسؤولون سويا عن كل الخراب والدمار الذي لحق البلاد في السياسية والاقتصاد وكل مناحي الحياة، حتى أنهم لم يقبلوا محاولة بعض القوى السياسية القفز من المركب واللحاق بالجماهير في سلوك انتهازي رخيص مكشوف ، إلا أن ذلك لم يفت على رجال الانتفاضة.
ومع أن الانتفاضة تباينت شعاراتها في البداية بين استقالة الحكومة وإلغاء الضرائب، إلا هناك شعاراً أصبح ناظما لجميع المنتفضين في كل أماكن تجمعاتهم وهو» رحيل النظام» بما يعنيه ذلك من إسقاط لكل الهياكل السياسية القائمة التي تأست وفق تقاسم طائفي صارم لا يترك أية مساحة لحرية العمل السياسي المتعدي للطوائف والمناطق.
تقسيم يراعي التركيبة السكانية الطائفية ويحدد لها نوع الوظيفة السياسية الخاصة بها وصلاحياتها ، وكذلك توزيع مجلس النواب مناصفة بين المسيحيين بكل تنوعاتهم وكذلك المسلمين بطوائفهم، وهي بالمناسبة لا تعكس النسبة الحقيقة لتوزيع اللبنانيين حسب تصنيفهم الديني الذي جاء عام 2018 كالآتي:
نسبة المسيحيين في لبنان 30.6 % و نسبة المسلمين 69.4 %. ، وهم كما يلي الطائفة الشيعية في المرتبة الأولى من حيث العدد وشكلت نسبة 31.6 % من اللبنانيين وجاء السنة في مرتبة متقاربة وشكلوا نسبة 31.3 %. ، والدروز والعلويين نسبة 6.5 %. ومع ذلك توزع مقاعد مجلس النواب مناصفة بين المسلمين والمسيحيين، ويحتكر المسيحيون الموارنة موقع رئاسة الدولة والمسلمون الشيعة رئاسة مجلس النواب والمسلمون السنة رئاسة الحكومة.
وفي إطار تأجيل السقوط الكبير في ظل إصرار المنفضين على رحيل الطبقة السياسية، وتجاوز الانتفاضة محاولات الإجهاض، واستمر الوضع الثوري وعدم العودة للخلف، تسعى الطبقة السياسية لترميم صورتها عبر ما سمي بالورقة الاقتصادية التي تضمنت عددا من الإجراءات الاقتصادية، التي تهدف إلى تهدئة الشارع اللبناني’.
وفيها اقترح رئيس الوزراء “خفض رواتب جميع النواب والوزراء الحاليين والسابقين 50 بالمئة، وإلغاء جميع الصناديق (الجنوب والإنماء والإعمار والمهجرين)، وفرض ضرائب على المصارف وشركات التأمين بنسبة 25 بالمئة، وإلغاء خفض معاشات التقاعد للجيش والقوى الأمنية”.
كما شملت الورقة “وضع سقف لرواتب العسكريين لا يتجاوز رواتب الوزراء، وتقديم مصرف لبنان والمصارف الخاصة 3 مليار دولار لخزينة الدولة، وإلغاء بعض المجالس والوزارات كوزارة الإعلام”.
وشملت الورقة أيضا “إلغاء كل أنواع الزيادات في الضرائب على القيمة المضافة والهاتف والخدمات العامة، ورفع السرية المصرفية عن حسابات النواب والوزراء والمسؤولين في الدولة، وخصخصة قطاع الاتصالات الحيوية، وإقرار قانون استعادة الأموال المنهوبة”.
المؤشرات تقول إن هناك رفضا لورقة سعد الحريري رئيس الوزراء، بل والدعوة إلى إضراب عام، وهي رسالة واضحة إلى القوى السياسية الحاكمة بأنه لا عودة للخلف، ومن ثم فإن الوضع مرشح للانفتاح على المجهول في ظل إصرار المنتفضين على إسقاط النظام بما يعنيه ذلك من سقوط كل الطبقة السياسية ، وهي تفتح الباب أمام الجيش للعب دور ما درءا للفوضى فيما تستمر لعبة عض الأصابع بين الانتفاضة والقوى السياسية التي تسلم بسهولة ، وفترة الشد والجذب هذه ربما تسمح لخروج الكثير من بيت الطاعة الحزبي والطائفي إلى فضاء الوطن الواحد المفتوح للجميع وبالجميع، دون طوائف أو مذاهب أو أحزاب..لرفد الانتفاضة..
ويمكن القول والحال هذه إنه تحد .. ومفترق طرق… فهل ينجح اللبنانيون في ذلك.. لننتظر ونرى…؟