علي الدلالي
ما أبعدنا اليوم عن (بيروبيجان)، أول وطن قومي لليهود في روسيا، قرر الزعيم السوفييتي الأسبق جوزيف ستالين إقامته لليهود نهاية العشرينيات من القرن الماضي في أقصى الحدود الروسية مع الصين(على بعد حوالي 8000 كلم من موسكو) بعد أن شعر بعدم الاطمئنان لولاء اليهود السوفيات واعتبر تجمعهم في مناطق استراتيجية مثل أوكرانيا والقرم، يحمل أخطارا استراتيجية بالنسبة للاتحاد السوفييتي السابق، إلا أن الحركة الصهيونية التي كانت وضعت ثقلها في فلسطين بعد وعد بلفور، كخطوة نحو إسرائيل الكبرى المرسومة على الأغورة الإسرائيلية، حاربت المشروع ورأت فيه نية من “الشيوعيين” لإفقار اليهود، والتخلص منهم بنقلهم إلى مكان ناءٍ.
تقول المصادر التاريخية إن (بيروبيجان) كانت أول وطن لليهود منذ طردهم من فلسطين، ولم يكن وراء إنشاء ستالين للكيان اليهودي في بلاده أي هدف إنساني، فقد أراد إبعادهم عن مراكز اتخاذ القرار والتخلص منهم ومن نفوذهم، وكان ذلك في عام 1928، أي قبل اغتصاب فلسطين بعشرين عاما، واعتُبرت أول أرض تجـمّع فيـها اليهود مـن جميع أنحاء العالم، ولا تزال قائمة إلى اليوم رغم أن معظم اليهود هجروها تحت ضغط الحركة الصهيونية إلى فلسطين.
لم تكن أوروبا وأمريكا بعيدة عن نظرة ستالين تجاه اليهود بل كانت أكثر عمقا وتجذرا وحتى تطرفا في ضرورة التخلص من نفوذ اليهود وإبعادهم عن مراكز صنع القرار حيث كان كل يهودي في أية دولة من العالم يعمل لصالح بني جنسه أولا وأخيرا. ومن هنا كان الإتحاد السوفييتي السابق أول دولة تعترف قطعيا بإسرائيل كدولة مستقلة في 17 مايو 1948 بعد ثلاثة أيام فقط من إعلانها، فيما اعترفت الولايات المتحدة على الفور بالحكومة الإسرائيلية المؤقتة باعتبارها السلطة الشرعية بحكم الأمر الواقع.
كانت الحركة الصهيونية مدركة لنوايا روسيا والغرب وأمريكا وعمل مؤسسوها ومنظروها على استغلال هذه الرغبة الكامنة في تلك الدول للتخلص من اليهود وقامت بابتزازها، وتواصل ابتزازها إلى اليوم، في بناء الدولة العبرية وتسليحها وضمان تفوقها العسكري على كافة الدول العربية مجتمعة، والأهم من كل ذلك تحصينها أمام كافة القوانين الدولية لتنفيذ عقيدة الحركة القائمة على إبادة الآخر وقتله ليعيش اليهود.
وبالفعل، تقوم عقيدة قوات الاحتلال الإسرائيلي، سليلة عصابات الأراغون وشتيرن والبالماخ والهاغاناه الإرهابية، على إبادة الآخر والقتل الجماعي والدمار الواسع فهي لا تقاتل إطلاقا، لأنها ترى في أي هزيمة نهايتها. وخاضت كافة حروبها مع العرب معتمدة على الحرب الخاطفة وركيزتها السلاح الجوي والدبابات والمدفعية لتدمير كل شيء وقتل المدنيين لإجبار الطرف الآخر على القبول بشروطها في وقف إطلاق النار وفرض سياسة التوسع سواء بالإحتلال والضم (الجولان) أو زرع المستوطنات (الضفة الغربية). واعتبر منظرو هذا الكيان في هذا الصدد أن الانسحاب من سيناء، رغم مرارته، مؤقت فرضته أوضاعا محددة ولن يدوم طويلا، وثارت ثائرتهم عند الانسحاب من غزة من طرف واحد إلا أنهم سكنوا عندما قامت قوات الاحتلال بفرض حصار شامل وقاتل على القطاع لا يزال مستمرا إلى اليوم ومنذ 17 عاما.
إسرائيل ليست دولة بالمفهوم التقليدي لعدة أسباب أبرزها أنها دولة لجيش، لا تعترف بحدود لإيمانها بإقامة إسرائيل الكبرى، لا تخضع للقوانين الدولية ولم تنفذ أي قرار صادر عن مجلس الأمن ولا عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولا تعترف باتفاقيات جنيف وفيينا مستغلة الفيتو الأمريكي كما أشرنا.
اليوم في غزة رغم مواجهتها كتائب للمقاومة لم تتخل قوات الاحتلال عن عقيدتها في القتل والتدمير، ورآها العالم تنتقم لفشلها في الحرب، التي تشنها منذ حوالي 50 يوما على 2.4 مليون فلسطيني بالطائرات الحربية والمسيرات والصواريخ والدبابات والمدفعية، برا وبحرا وجوا، للبطش بالنساء والأطفال والإبادة الجماعية وقصف المستشفيات وحصارها وحرقها، وتدمير المدارس المكتظة بالنازحين المدنيين، والمساجد والكنائس والمخابز والأسواق والمطاحن ومحطات الكهرباء وخزانات المياه، وكل شيء لتجعل من القطاع مكانا غير قابل للحياة.
إن هذه الوحشية التي تُبث على الهواء يوميا منذ 50 يوما لا مثيل لها في العالم ولم ترتكبها حتى النازية، فنحن أمام (هولوكوست) حقيقي في غزة وجريمة ضد الإنسانية وحملة إبادة جماعية وتصفية عرقية لا مثيل لها، ينفذها جيش محتل يستنسخ عقدة المحرقة النازية ضد اليهود التي باعها قادته بـ “الدوتش مارك بالأمس واليورو والدولار اليوم”، ضد شعب أعزل ومتيقنا من الإفلات من العقاب.