تبلد المشاعر
محمود السوكني
وأنت تذرع الشوارع ، و تجوب الأزقة ، وتعبر الميادين و تقطع الساحات ، تواجه بسحنات مكفهرة ، و تقابلك وجوه عابسة واجمة ، تتقاذفك نظرات فاحصة غاضبة إذا أطلت النظر إليها – لضعف في بصرك أحيانا أو فضول في معظم الأحيان – ترمقك بعيون حادة جاحظة متنمرة متهيأة لمعركة طاحنة أسبابها في علم الغيب !!
تضطر أحيانا للابتسام تجنباً لأي التحام أنت في غنى عنه ، فيكون الرد نظرة استهزاء لجبنك وهروبك من أرض المعركة !!
الغريب أن هذا الموقف الشائك ، استوت فيه كل النظرات بغض النظر عن جنس مصدرها ، ذكراً كان أم أنثي !!
على أيامنا ، كانت المرأة تطأطيء رأسها خفراً وحياءً عندما تضطرها الظروف إلى الخروج سعيا وراء الرزق أو ما شابه ذلك .
اليوم ، تنافس أخاها الرجل في حدة النظر ، و تشاركه في “التفنيص” .. عيني عينك ، دون خجل و بإصرار واضح !! حتى الرجل – على أيامنا أيضا – لم تكن من موجبات رجولته أن يمارس عادة “التفنيص” في الوجوه التي لا يعرفها ، بل كان يرمقها بنظرة عابرة مصحوبة بتحية الإسلام التي ندر الآن من يلقيها أو يعبأ بها !!.
هذه النظرات المستفزة ، و ذاك التبلد في المشاعر و الجفاء الذي طفح على شغاف قلوبنا ، يعكس خللاً في التركيبة الاجتماعية يستوجب وقفة جادة من علماء الاجتماع و جهابذته تبحث أسبابه و دواعية و سبل علاجه ، و طرق مواجهته .
هل وصل بنا الحال إلى استجداء ابتسامة الآخر ؟ هل استفحل الأمر ، و تعاظمت المشاكل ، و تعقدت ظروف الحياة و نوائب الدهر ، حتى عدنا لا نقوى على الشعور بالفرحة ، و نخاصم الحبور ، و نلعن الظلام و الشمس مشرقة وهاجة ؟!.
ما الذي أوصل بعضنا – إن لم يكن أغلبنا – إلى هذا الإحساس المدمر ، و الإحباط المفرط ، و التشاؤم السافر !!
في تقديري أن الأمر يتعدى هموم الحياة و مشاكلها ، فلقد مررنا بظروف أشد وطأة و أقسى وقعاً ، بل أنها لا تقارن بما نحن فيه الآن !! كنا نقسم رغيف الخبز و السعادة تغمرنا .
كنا نتكدس كالخراف في حجرة واحدة و ننعم بنوم هانئ و أحلام جميلة متفائلة .
كنا نسابق الزمن من أجل لقمة العيش ، و نواصل المسير دون كلل و القلب مفعم بالخير و الأمال عراض بحجم الوطن .
كنا أكثر إقبالاً على الحياة ، رغم شظف العيش .. و قلة الحيلة .. و خواء الجيوب ..
لم تكن تهمنا المادة ، فالقناعة تغمر القلوب و الأمل معقود على قادم الأيام بفضل الإيمان بالله ، و بالأرض التي تزخر بعطاء زاخر متجدد .
لم يعرف العبوس طريقه إلى وجوهنا أنذاك ، بل اكتست ملامحها بشائر الزهو و الحبور ، و التمعت أعيننا بإشعاع الفرحة و غزت قلوبنا الطمأنينة و البشرى بغدٍ مشرق عزیز .