منصة الصباح

تاجر الفحم

تاجر الفحم

فتحية الجديدي

رافقت والدي إلى السوق الشعبي القريب من مكان سكننا للتبضع, وقصدناه دوناً عن سواه لتنوع سلعه ورخص أسعاره مقارنة بنظرائه.

كان سوقاً شعبياً بامتياز, يفترش فيه الباعة الأرض ليعرضوا بضاعتهم, ولربما استخدم بعضهم سياراتهم لفعل ذلك, فأضحت السيارة للحظات دكاناً متنقلاً.

أمسكت بيد والدي ورحت أتقدم بخطوات تؤود, أنظر إليه في كل مرة يجيب فيها على أسئلتي المتكررة والملحة ، ماذا ستشري لنا – بشيء من الأنانية ماذا ستشتري لي – لأنني كنت أحب الحلوى البيضاء المعجونة بحبات اللوز التي تسمى ” الطروني”, كما أتوق للحصول على فستان أضمه لقائمة فساتين المبهجة وأنا بعمر الفراشة.

التقى أبي بالعم علي الذي تربطه صلة نسب من عمتي وكان يتخذ من صندوق سيارته “البيجو العكاري” رمادية اللون مكاناً لبضاعته الشتوية بالرغم أننا لازلنا في أيام الخريف.

كان ينادي بصوت ضعيف على الناس للشراء, لكنه لم يفلح في إقناعهم للتقدم صوب ما يبيعه من أكياس الخيش المعبأة بالفحم .. تقدمنا إليه وطلب منه والدي العزيز أن يتنازل عن كل بضاعته ويتركها له, مقابل مبلغ مالي يحضره له مساءَ, فوافق العم علي وسارع بإنزال بضاعته أرضاً من السيارة “بمساعدتنا”.

وعندها وجهني أبي بالعودة إلي البيت وطلب مني إحضار الغطاء الصيفي من والدتي, الذي كان يطلق عليه اسم “الكوبيرتا”, وبسرعة قصوى أحضرتها, بالرغم من غضب أمي واستهجانها, وقام أبي بتغطية الفحم.

ما إن فرغنا حتى انتبهت لغياب العم “علي”, فقد ذهب الرجل المسن ذو العينين الزرقاوين والبشرة البيضاء, والذي لا يشبه عائلتنا الموشحة بالسمرة في ملامحها, فسألت أبي ليرد “عاد لبيته بدل بهدلته”.

لم أفهم صراحة, لكن أبي لم يهتم لذلك واتجه نحو أشخاص في القسم الآخر من السوق وتكلم معهم واتفق علي بيع البضاعة بالجملة ونجح في ذلك وقبض ثمنها وعدنا للبيت بعد أن اشترينا بعضًا من الفواكه وطاولة خشبية جررتها معي, رفقة أسئلة لم أكف عن طرحها حول العم علي ؟ ولماذا أخذت منه الفحم وقمت ببيعه؟

أجابني أبي : “عمك علي لا يعرف البيع بصوته الضعيف”, فقلت له هل البيع يحتاج صوتاً قوياً وأنت قمت بالبيع ولم تقم بمناداة الزبائن ؟ فرد قائلاً .. البيع يحتاج إلى صوت قوي وليس عالِ ! قلت له .. كيف؟ .. نظر بحدة من طرف عينه وقال : لابد أن تقنعي الآخر بما لديك بقوة شخصيتك وليس بعلوّ صوتك.

تعلمت من أبي رحمه الله أن أدافع عن حقي بصوت قوي وليس برطن عالٍ, عندما أدار صفقة كان أساسها كسب بعض المال ، ونصيحته أعطت لشخصيتي جزءًا مهمًا في الحياة, بأن أدافع على ما أملكه وأصدّره بقوة وثقة ، انعكست هذه الجزئية التربوية على الشكل العام في التعامل مع الآخر في مهنتي وعائلتي وفي الحياة عمومًا ، أنا ومن مثلي من جيلي يخجل أن يرفع صوته على والديه أو مديره وصاحب عمله أو زميله في الوظيفة وأن يكون فجًا في طلب حقه ، لأن أسهل الأشياء أن ترفع صوتك, ولكن الصعب أن تحافظ على إيقاعك التربوي من أجل الدفاع عن ما تملكه أو المطالبة بالحق ، لهذا قد تفهم الأمور بشكل خاطئ ونتهم بالضعف ، لكن تربيتنا لا تسمح لنا بأن نكون “ذوي فظاظة ” شكرًا أبي ولتاجر الفحم.

شاهد أيضاً

ثلاثة في أسبوع واحد

أحلام محمد الكميشي   كنت أنوي الكتابة عن مصرفنا المركزي المترنح وحقولنا النفطية المغلقة وسياستنا …