زايد … ناقص
جمعة بوكليب
لم أجد في زيارتي الأخيرة لمدينة القاهرة ما يؤكد لي، على الأقل، أن تلك المدينة ربما تعود إلى رُشدها. المقصود بالرُشد ليس الحكمة. لأن المدن والحكمة ضدان لا يلتقيان. وليس الحب. فالمدن والحب قد يلتقيان مجازاً في قصائد الشعراء على سبيل المثال. لكن، واقعياً وفعلياً، فإن المدن مهما كبرتْ، أو صغُرتْ، أومهما تطاولت في كتب التاريخ وشمخت، أو تواضعت مكانتها، لا تعرف الحبَ، ولا تهتم بالمحبين.
المقصودُ بالرُشد، في هذه السطور، أن تتخلص – تلك المدينة التي تكاد تغرق في ماء النيل من كثرة الزحام – من فوضى حركة السيارات، كي يتمكن بنو آدم، من سكانها ومن الزائرين أمثالي، من التمتع بالتجول في أحيائها وشوارعها من دون خوف وبسلام.
في اليوم الثالث لوصولي إليها، على جناحي الشوق ، قادماً من لندن لزيارة معرض الكتاب السنوي بعد غيبة، لم أطق صبراً على عدم قراءة الصحف والمجلات. في السنين الماضية، كانت اكشاكُ بيع الصحف والمجلات في كل مكان في القاهرة. والآن، بقيت الاكشاكُ في مكانها، بل وازداد عددها، لكن للأسف لم يعد بها للصحف والمجلات مكان. حين سألتُ عن الاسباب، قالوا لي إن الانترنت تولت هذه المهمة. وبالتالي، عزف الناس على شراء الصحف الورقية، ولم تعد ْهناك حاجة لاحضارها وبيعها. السؤال لماذا يحدث ذلك في القاهرة ولا يحدث في لندن؟
مازلتُ في لندن، أخرج من بيتي، كل صباح، لاقتناء صحف ومجلات. ودائماً أحرصُ على اقتنائها في ساعة مبكرة نسبياً، لأنها تنفد بسرعة. هذا يعني أن الناس، رغماً عن الانترنت، مازالوا يحرصون على قراءة الصحف هذا أولاً. وثانياً، لأن الصحف تحرص على تقديم مادة صحافية قد لا تتوفر بمواقعها على الانترنت، وهذا احتمال ضعيف. وثالثاً، هناك احتمال أن يكون قرّاء الصحف الورقية من كبار السنّ، ولم تجمعهم بعد مودة مع الانترنت، ولا أظنّها ستتحقق قريباً. وما يهمّ هو أن البحث عن كشك لبيع الجرائد والمجلات في القاهرة أضحى شاقاً. الأمر اللافت للاهتمام هو أن المادة الصحافية المنشورة في تلك الصحف والمجلات المصرية هذه الأيام، ضحلة جداً، ولن يجد بها قاريء شغوف مثلي ما يثير شهيته للقراءة. والسبب، في رأيي، أن الكتّاب الأوائل، الذين تعلقنا بهم، غادروا عالمنا هذا، ولم يحلّ مكانهم كتّاب على نفس المستوى، أوحتى أقل قليلاً. وإذا كان هذا حال الصحف والمجلات المصرية، وقد وصل ذلك المستوى من الضحالة، فماذا سيكون حال الصحافة في البلدان العربية الأخرى؟
وفي تفسيري للظاهرة، هو أن حال الصحافة العربية لايختلف عن أحوال الواقع العربي عموماً. فمع تناقص المد الوطني وتصاعد الموجات الدينية على أختلاقها، واشتداد القبضة الأمنية تبعاً لذلك، تقلص هامش الحرية اعلامياً. ولهذا السبب هجر كثير من الكتّاب المهنة التي أحبوها، بسبب انعدام وجود هامش يسمح لهم بالتصدي لما يعترض الواقع من اشكالات. وخروجهم من الساحة فتح الأبواب على مصارعها أمام نوعية مختلفة من الصحفيين، جاءوا إلى هذه المهنة برغبة الارتزاق وليس بشغف الحب والمسؤولية والواجب الانساني. أضف إلى ذلك ما شاهدنه من تراجع في الساحة الثقافية الوطنية ومن اقفال بيوت الثقافة ،والمكتبات العامة، وانعدام الجمعيات المهتمة بالشأن الثقافي التطوعي.
الصحافة مثلث من ثلاثة أضلاع متساوية: العلم والفن والعشق. وأن تتعرض الصحافة إلى التهميش رسمياً، ويتحول الصحافيون إلى مجرد موظفين فهذا أمر يدعو إلى القلق، والخوف من المصير الذي تتجه المجتمعات العربية نحوه بعيون مغمضمة.