منصة الصباح

الإيرلندي.. إشكالية التباس النفس الدفينة

 

لبنى بن عبد الله

الإحساس بالذنب هو اعتراف الشخص بفعل الأذية أو الخطيئة التي أتى على ارتكابها، أما الندم فهي حالة التأنيب التي يستشعرها المرء جرّاء هذا الفعل.

وعادة ما يرافق إحساس الندم الإحساس بالذنب…بمعنى آخر أن الشخص الذي تستبد به مشاعر الذنب إثر سلوك ما، تستبد به في المقابل أيضًا مشاعر الندم فيخالجه تمني أنه لو عادت به عقارب الزمن للوراء لما فعل ما فعل، وثمة أشخاص يستشعرون الندم وتأنيب الضمير دون أن يرتكبوا أخطاء بعينها أو جُرم ما ، وبالتالي يتضاعف شعورهم بالخوف كونهم يعجزون عن إيجاد تفسير منطقي لشعورهم هذا ..وفي الغالب يظهر سبب قد يأخذ بُعدًا منطقيًا يتمثل في» الأنا « لديه التي ترفض أن تُقرّ بخطيئته وتسوق له جملة من التبريرات فتُسقط عن ذهنه شرط الأذى عن الآخر، أو أنه قد تورّط أو شارك بصورة مباشرة في أتون الخطأ ..لكنّ الحقيقة تثبت أن اللاوعي لديه يبدأ بإدراك أنه أخطأ بالفعل !

ما ذكرناه آنفًا لعله يكون مفهومًا، وهناك أشخاص كثر من الممكن أن يمرّوا بتجربته، إنما الذي يظل خارج سياق الفهم ربما أنه في أحايين أخرى يحدث العكس، مثل أن الشخص يُدفع بشكل ما للاعتراف أنه أذنب أو أخطأ دون أن يستشعر بالندم، هنا « الأنا « العليا لديه تُمكِّنه من الاعتراف بالخطيئة، وتبعًا لمعاييرالصواب والخطأ التي تنشَّأ عليها لا شك أنه أخطأ إنما في الوقت عينه «الأنا «انحازت لغريزة البقاء عند الـ «هو» وبررت له أن تصرّفه اقتضاه ظرف الموقف ذاته، وأنه لم يكن من هناك من خيار آخر لهذا الأذى، كونه أخطأ خطأ صغيرا للحيلولة دون وقوعه في أخطاء أخرى أكبر ، وأن تصرّفه هذا كان الحل الوحيد لخروجه من المأزق الذي تورّط فيه، فإحساسه بالذنب واعترافه بالخطيئة لا يعني البتّة أنه نِدم على ما فعل، فلو عادت به عقارب الزمن للوراء لاختار المشي على ذات الدرب.

وأزمة فرانك في فيلم «الإيرلندي» هي الحالة الثانية، فلدينا شخص أمضى حياته كلها مجرمًا وقاتلاً …إلى ان وصل به الأمر إلى أن غدر بصديق عمره، ولم يكتف بهذا فقط، بل ساعد في إخفاء حقيقة موته وروّج لكذبة أنه اختفى أو فُقد، حتى أنه أذاق زوجة صديقه المغدور العذاب فعاشت على أمل كذوب بعودة زوجها يومًا .

أما فرانك فهو شخصية تتمتع بسلبية مفرطة فيظل المتلقي طوال أحداث الفيلم يرصد تصرفاته التي تحولت لانعكاس لما حوله، فنراه يتلقى الأوامر والنواهي فقط، ومخرج الفيلم كأنه يقودنا من أيدينا لنُحس ونشعر بأزمة فرانك فهو بالفعل لم يكن أمامه أي خيار آخر ، بعد ان تورّط في قتل صديقه ولم يملك أيّ سبيل لتحذيره كأن يهرب مثلاً ، كونه مُسيّر تمامًا من قبل مَن أعطوه الأوامر ..وبالطبع هذه نتيجة سلبية ويبقى اختياره الأول، لكننا لم نصل بعد لبيت القصيد .

فبعد مرور سنتين ووفاة رؤسائه وخسارته لسلطته وفقدانه لصحته وأسرته للدرجة التي لم يعد هنالك شيء يُراهن عليه، لكن الندم لازال شعورا مُستبعدا لا يُراوده !! فهو يواظب على الذهاب إلى الكنيسة ويعترف أمام القسّ بكل ما ارتكبه من آثام وحين يسأله القسّ ، هل تستشعر الأسى ؟ هل يخامرك ندم ما ؟ تتلعثم الحروف على لسانه ويُخفق في الإجابة بشكل مباشر، ثم يصمت بُرهة ويُردف إذًا لماذا جئت هنا ؟ ما مبرر حضوري؟ ويشرع في طرح الأسئلة على نفسه ، كيف يمكن لإنسان سويّ أن يُجري مكالمة هاتفية كتلك التي أجراها مع زوجة صديقه الذي غدر به ؟!

والحقيقة في هذا السياق توحي بأن فرانك شخص جِلف قاسٍ رغم كل ما ارتكبه،فهو لم ولن يشعر بالندم قط ! بيد أنه بموازاة ذلك لا ينكر أن الذنب يستبد به أكثر ، فهو يُقرّ بما اقترفت يداه من جريمة لكنّه ليس بنادم ! ويتجلى هذا في مشهد مع ابنته حين تسأله عن الأسباب التي دفعته لفعل ما فعل، فيجيبها: إنه فعل ما فعل بغية توفير الأمان لهم ولحمايتهم من شر الأذية، ذلك ان فرانك مقتنع أنه ليس أمامه من حل آخر، لكن مع هذا لازال يُبدي دهشته جرّاء عدم شعوره بالندم !

الفيلم يُشير لإشكالية أخلاقية معقدة، ليس في كون أن فرانك يستشعر الذنب ولا يستشعر الندم  ! إنما لكونه يتطلع للشعور بالندم لكنّه فقد الطريق لذلك …ربما أعظم الأعمال السينمائية هي تلك التي تخلق لنا هذا النوع من الأزمات وتزعزع ثوابتنا وتجعلنا في المقابل إزاء مرآة ذواتنا.. لنظل نطرح الأسئلة ونُفكّر  ونتدبر ونضع أيدينا على مكمن مشاعرنا الدفينة …فيلم الإيرلندي دعوة للتأمل والتبصّر بعواقب اختياراتنا…كتجارب الصداقة والخيانة ، الوحدة والعجز ، الحياة والموت.

شاهد أيضاً

بحضور المدير التنفيذي للمؤسسة الوطنية للإعلام: اختتام الدورة التي اقامتها هيئة الصحافة في مجالات الادارة الحديثة

اختتمت اليوم الخميس 21 نوفمبر بالهيئة العامة للصحافة الدورة التدريبية التي نظمتها الهيئة العامة للصحافة …