منصة الصباح

أطفال بأجساد كبيرة

فتحية الجديدي

كان في اعتقادي أن كل إنسان يكبر في العمر عليه أن يكون أكثر اتزانًا ورصانة، كنموذج للحصافة. اعتقدت أن العمر هو ما معيار كيفية التعامل مع الآخر، فكان أن حرم علينا اللعب في الشارع بعد تجاوزنا الخامسة عشر من العمر، وتكرر الأمر مع المراجيح ونحو نخطو في العقد الرابع، ولا يجوز لنا الحب والشعور بالعاطفة فوق الخمسين – ما خلا حب الوطن والأهل والقهوة والملذات القريبة.

رسمت في بالي صورة تعطي من في العشرينيات فرصة اللهو وارتكاب الأخطاء، أما من ارتمى في أحضان الثلاثين فيحق له الفوز بقلب معجب، ويمكنه أن ينعم بوقت إضافي لنفسه في الأربعينيات، لكن عليه أن يتجهز لمقولة «أنت مش صغير.. تعرف ما بصلح بيك»، ولدى بلوغه الخمسينيات فليرسم مخططا لمستقبل مرجو، وكأن بوصلة العمر تتحرك في اتجاهات متباينة، لكنني لا أجزم أن من ركضوا للإمساك بالزمن كي لا يغابطهم ومضوا ليكونوا رصيدًا أدبياً وماديًا ومعنويًا يستندون عليه في حياة تحكم سنونها القصيرة بمقتضيات خاصة وتظهر من خلالها تقاطعات حياتية صرفة مرتبطة بمراحل العمر، تبعاً لقوة العقل والجسد من الشباب إلى الكهولة «خسروا الكثير».

ذلك أنهم لم يصنفوا زمنهم أبدًا وفق الروح وما تحمله من رغبات ومشاعر وأحاسيس أيضًا، والدليل أننا نتمنى أحيانًا ركوب المراجيح بعد أن تعدينا الخامسة والأربعين وقد يخفق القلب ونحن على أعتاب الخامسة والخمسين، يخفق لآخر يشعرنا أن الوقت ليس ملكنا ومن حقنا أن نحبهم ولو كانت تقديراتهم – وفق المعيار الزمني – تشير لمغادرتهم بعد سنوات.من يدري ما القادم، فحتى سنن الحياة تحركها أقدار لا يملك أحد منا برمجتها و«سستمتها» كما يحلو له، فقد كنت أعتقد أنني لا أستطيع أن أحن لحضن حبيب وأركض وسط البساتين وأحلق مع الفراشات والطيور .. لم أتوقع أن جسدي سيؤلمني عندنا أتذكر أغاني المساء التي ارتبطت في أذهاننا وغاب عنها أبطالها، ولم أتوقع أن ملامح وجهي تتحرك عندما تتلقى غزلًا أو استلطافًا.كيف تحسب سنوات العمر ونحن نكبر كل دقيقة وكل يوم، لكننا نصغر كل عام عندما يأخذنا الشوق لأولئك الأحباب وكأننا في المراهقة؟ كيف نكبر ونحن مع الأحلام التي تراودنا كملهمين لغيرنا ونبحث عن واقع يكون سكناً لنا وأكثر جمالًا! وأصدق وقعًا .. ألا تعتبر كل هذه الأشياء ممارسة للصغر، وكوننا أطفالًا في أجساد كبيرة؟ألا نعتبر صغارًا ونحن نستمتع بالتهاني من محبينا وأهلنا وأصدقائنا ونشاكسهم من ورائهم ؟ ألسنا صغارًا – وإن أفشت وسائل التواصل الاجتماعي بأن عمرنا تجاوز نصف قرن – ولا تزال ملامحنا تتحايل على روادها! هذه المرة لم أتذمر ولم أنزعج بأن سنة أخرى انتزعت مني، بل بدت حافزًا للاحتفاظ بالبقية وفق معاييري دونًا عن بمعايير غيري، ولم أحزن بأن ما كنت أبحث عنه فيما مضى لم يعد مهمًا بالنسبة لي، ولا تكدرني الوقفات غير الصحيحة من البعض، إذ استبدلتها باللامبالاة كي أكسب مزيداً من الوقت، ولم أندم لأن اعتقاداتي كانت خاطئة فأعدت تصحيحها بمفهوم المنفعة لا الخسارة.. و«اللي كان كان».

أشرف على خمسين عامًا وها أنذا أرتب نفسي ولا أعتقد أن أرفف الحياة المزدحمة تسمح لي بعبثها مرة أخرى، كي لا أتكبد عناء إعادة صياغتها من جديد، المهم أن أعيشها بالسن التي أحبها، ولكل حالة مفردتها التي أسعد بها.

نصف قرن تسمح لي بالقول إن «زهيرًا» بن أبي سلمى أخطأ حين قال «سفاهة الشيخ لا حلم بعدها» .. فالقلب لا يشيخ ولا يسفه.

شاهد أيضاً

زيادة الوزن وطريق الموت

مع شاهي العصر: توجد دولة في جنوب أمريكا اسمها بوليڤيا بها شارع يعد أخطر شارع …