محمد الهادي الجزيري
يحي..طفلي الثاني ..صار ظلاّ لي ويقتفي خطاي في مسائل عدّة وخاصة الكتابة وكلّ ما هو أدبي..واليوم أسعدني بتفوّقه في دراسته الجامعية فقد نجح في اجتياز السداسي الأول من السنة الثانية ماجستير. والمرور إلى مرحلة البحث…ثمّ بتصدّى للدكتوراه…
ولكن قبل أن أطلعكم على نموذج من إنتاجه الأدبي ..، أشير إلى أنّي كنت كتبت عليه وهو طفل قصائد عديدة من ضمنها :
أنا الأبجدية
روحي المعاني وأعضاء جسمي الحروفُ
أنا الياءُ … ناديتُ يحي
فأهمل لعبته وحَبَا نحو حضني ، حفيّا بوجهي
فقبّلتُ لحمي وأيقظتُ موتاي والأغنيةْ
ليدعوا له بالحياةْ
لِيحيا حفيد الينابيع يحي
لِيحيا نديم صباحي
ونحلة قيلولتي
وفراشة ليليَ يحي
لِيحيا مبعثرُ أوراق حزني
وحاضن روحي الغريبة يحي
لِيحيا شقيق القصيدة ،
توأمُ حلمي
شبيه الخرافة يحي
لِيحيا وريث أسايَ
وديدنُ عيني
لِيحيا حديث العناصر يحي
لِيحيا حليفُ الحياةْ
أمّا هو فقد دأب منذ شبابه الأول على كتابة هواجسه ومن ضمنها هذه المقطوعة التي عثرت عليها في أرشيفي :
أمّي لا تحبّ الحروب، أبي أيضًا لا يحبّها ولكنّه لا يضجرُ من متابعة أخبار الجيوش المتقدّمة صوبَ أهدافها، والسيّارات المفخّخة والقذائف التّي -بشكلٍ غريبٍ وعلى نحوٍ خاطفٍ- تُسقط المباني العالية وتجعلها تتهاوى مثلَ حمامٍ جريحٍ. لكلّ يومٍ إحصائيّاته: في الغداء يموت عدد لا بأس به من النّاس، مساءً، مع كوب الشّاي، يتفّق الأطراف على وقف إطلاق النّار. أثناء تناول العشاء تبدأ الإشاعات في الانتشار: عاد القصف، مات فلان، الجيش الأوّل يحرز تقدّما واضحا على حساب الجيش الثّاني، زعيم أحد أطراف النزاع سيلقي خطابا خلال الدقائق القادمة..
يتحمّسُ والدي ويرغبُ في مشاركتنا ما سَمِعهُ، بينما ترفضُ أمّي أن يحدثَ كلّ هذا..
على الأقلّ في بيتنا.
بيتنا صغيرٌ مقارنة ببيوتٍ كثيرة، كبيرٌ نسبيّا لو نقارنهُ ببيوتٍ أخرى، ولكنّنا في كلّ الأحوال لا ننظر إلى الأمر من هذه الزاوية، فلو غادرنا هذا المكان سنُجرّد من كلّ الأوهام التّي تحصنّنا وستخترقنا الحقيقة أكثر..
لا يوجد موتٌ هنا، أقصى ما يمكنُ أن يحدث هو أن نتشاجر بسببِ أو بلا سببٍ، ولكنّنا نعودُ بسرعة لنبثّ في البيت إيقاعنا: الغيتار، صوت التلفاز، آلة الخياطة، النداءات المتكرّرة، الغناء بأصوات سيّئة.. كلّ ما يحدثُ هنا جميل، حتّى الأشياء التّي قد تبدو في لحظتها سيّئة.. كلّ ما يحدثُ هنا فيه شيءٌ من التحدّي. نحنُ نقاومُ، حقّا، ولأمّي الفضلُ في كلّ هذا.
في الفجر، تضعُ أمّي قوتًا للحَمام الذّي قد يفكّر في زيارة سطحنا، قبل أن تضع الطعام للقطّ، وتمضي.. بكلّ حبٍّ، نحوَ بثّ نسقها في كلّ تفاصيل يومنا..
كلّ ما يحدثُ هنا جميل.. جميل قدر جمال أمّي التّي لا تكفّ عن تذكيرنا بأنّ رداءة ما يحدث لا تشبهنا في شيء.