انكسار الحلم
مفتاح قناو
كانت ستينيات القرن العشرين هي فترة التأسيس للنهضة الصناعية والاجتماعية والإبداعية في كامل المنطقة العربية، بعد أن كانت فترة الخمسينيات هي حقبة تحقيق الاستقلال السياسي وقيام الدول.
في مصر كبرى البلدان العربية كان عقد الستينيات هو عقد النهضة الصناعية بتأسيس مصانع حلوان للحديد والصلب وإقامة السد العالي والدخول في صناعة تجمع السيارات ومشروع تطوير الصواريخ، كما شهدت البلاد نهضة ثقافية وفنية بلغت ذروتها بوجود جيل من الرواد مثل طه حسين وعباس العقاد والمازني ونجيب محفوظ وغيرهم في مجالات الأدب والفكر، وعبد الوهاب وأم كلثوم ويوسف وهبي في مجالات الفنون، وقد بلغ المسرح ذروة نضجه بإعمال خالدة لتوفيق الحكيم ونعمان عاشور ومحمود دياب، وقدمت السينما أفضل إنتاجها، وأصبحت فنًا راسخ القدم من خلال أعمالا عبرت عن طموحات كبيرة في التغيير والتقدم.
وفي ليبيا لم يختلف الأمر حيث كان عقد الستينيات بمثابة عقد التأسيس في مجالات متعددة، فدخل القطاع الخاص الليبي ورجال الاعمال ــ تلك الفترة المبكرة ــ في مجال الصناعات الغذائية ليتحقق الاكتفاء الذاتي في الكثير منها، فكانت مصانع معلبات الطماطم والزيتون والبسكويت والفواكه بأنواعها المختلفة، ووصل لصناعة القاطرات والحاويات والعربات المستخدمة في الزراعة والإقامات الصحراوية والكثير من الصناعات المعدنية السهلة.
في المجال الإبداعي كان المسرح الليبي يقدم أعماله الناضجة على مسارح (الهمبرا) و(الغزالة) (والكشاف) والاذاعة الليبية بفرقتها الموسيقية تقدم أعمالها الغنائية الخالدة والتي مازالت الناس تسمعها حتى يومنا هذا، وظهر جيل مميز من الشعراء والقصاصين يبدعون نصوصاً جميلة، وصدرت في طرابلس وبنغازي العديد من الصحف المميزة مثل الحقيقة والرائد والبلاغ والشعب.
من هنا تأتي أهمية عقد الستينيات باعتباره عصرا للنضج الفكري الإبداعي، فيه توفرت الظروف المناسبة لتحقيق الاستقلال السياسي في كثير من الدول مثل تونس والجزائر، وكانت البدايات لتأسيس دول خليجية كانت محميات بريطانية، كل ذلك كان متزامناً مع وجود تجمع دولي لحركة الحياد الايجابي وعدم الانحياز، وكانت الافكار التحررية هي السائدة في اوروبا وأمريكا لدعم النضال الإنساني.
كان الخط البياني لبناء الدولة الوطنية القوية والقادرة في صعود مستمر، وتحققت خطوات إيجابية في سبعينيات القرن العشرين في الدول الأفريقية، وتقدمت فيه الدول الأسيوية حيث حققت دولة مثل كوريا الجنوبية طفرة مهمة، انتقلت بها إلى مصاف الدول الصناعية.
لكن الانتكاسة الكبيرة كانت فقدان ما تحقق في الستينيات من بدايات للنهضة الوطنية تراجع مخيف في العقود التالية لأسباب كلها سياسية، ترتبط بواقعنا المتخلف سياسياً واجتماعياً، لكن ما حدث ويحدث في السنوات الأخيرة، هو ما لم يكن يخطر على قلب بشر، أن تصل دول المنطقة إلى حروب أهلية داخلية تمزقها، وتحصد أرواح مواطنيها وبيد أبنائها فهو الشيء الذي لم يكن ليصدقه أحد في ذلك الزمن، لقد انكسر الحلم الوطني، وضاعت الامنيات التي تغني بها الشعراء، وأصبح حلم المواطن في الكثير من بلداننا ، أن ينام دون أن يسمع دوي الانفجارات، وأن يستهل يومه الجديد بأن يجد ما يسد الرمق له ولأطفاله.