منصة الصباح

لابُدَّ من صنعاء…

لابُدَّ من صنعاء….

زايد…ناقص

جمعة بوكليب

 

البعضُ يقول إن الإمام أحمد بن حنبل، هو أولُ من قال:” لابُدَّ من صنعاء وإن طال السفر.” البعضُ الآخر يؤكد أن الإمام أحمد الشافعي هو من قالها. والأكيد أن الشاعر اليمني المرحوم عبد العزيز المقالح ألتقط تلك المقولة، ووظفها شِعريّاً في احدى قصائده. لكن البحث عن القائل الأول أو الأخير ليس مهماً.

والحقيقة، أن صنعاء، المدينة اليمنية المعنية، ليست واحدة بل اثنتين. صنعاءُ الواقع وصنعاءُ الحلم. الأولى نعرف موقعها ومن يسكنها، وأمورها وأحوالها. والثانية صنعاء المجاز، الحلم الذي نشتهي الوصول إليه رغم الصعاب.

لذلك صنعاء مدينتان مختلفتان. اختلاف الواقع المعاش، عن المجاز -الحلم. وصنعاء المجاز-الحلم، وليس صنعاء الواقع. وهي من منح تلك المقولة ديمومة وأنتشاراً، وأصبغ على صنعاء شهرة وصيتاً. والوصول إلى صنعاء الحلم أصعب وأشقّ من الوصول إلى صنعاء الواقع، حتى وهي في حالة حرب.

صنعاء – الحلم أكثر اشراقاً، وأعلى مرتبة في القلوب والنفوس. والوصول إلى الحلم انجاز ليس سهلاً. ولذلك، يردد كثيرون تلك المقولة عند اشتداد المحن، تأكيداً على عزمهم وتصميمهم على تحقيق أهدافهم.

والسفرنحو الحلم رحلة طويلة. عبر طرق عديدة. واحدة تقود إلى أخرى. وعلى المسافر – الحالم، أن يعرف أيّها أنسب وأقربُ إلى الهدف المقصود. وخلال رحلته الطويلة، سوف يرتكب، بالضرورة، العديد من الأخطاء، لنقص الخبرة بمكر الطرق. لكن، بمرور الوقت، وتكرر الأخطاء، تتراكم الخبرة. ويبدأ تدريجياً في فكّ طلاسم أبجديات الطرق. ويصير مثل صياد لا يتوقف عن مطاردة غزالته المنشودة.
اختيار الطريق الخطأ ينتهي بالمسافر إلى تضييع الهدف. وقد لا يجد صنعاه مطلقاً، ما لم يكن متيقظاً، منذ بداية الرحلة، لما يقابله فيها من علامات. أي ما تركه السابقون، وما خلفوه من أنفاس وأحلام وانكسارات…الخ. لأن ما قد يرتكبه من أخطاء، تلزمه بالرجوع من نفس الطريق، والعودة إلى نقطة انطلاقه الأولى. المشكلة أنّه حين يعود إلى نقطة الانطلاق الأولى، يكتشف أن العالم تغيّر، ولم يعد كما تركه بداية الرحلة. وهو في ذلك كالمنفي، حين يصل، بعد سنوات طويلة ، إلى مدينته الأم فلا يجدها. وفي الواقع، فإن المدينة موجودة، ولكن الصورة الجامدة التي ظلت محفوظة في قلبه لتلك المدينة، عندما غادرها، تلاشت ذائبة. ومكانها حلّت مدينة أخرى، ليس بنفس ايقاع نبض القلب، وإن حملت نفس الاسم والعنوان. ولذلك يكون أمام خيارين: أن يبقى في تلك النقطة الأولى إلى الأبد، أو يغامر بالرحيل مجدداً. الذين يفضلون الخيار الأول، ينضمون إلى من سبقوهم، ممن أُصيبوا بالاحباط،، ورفعوا راية الاستسلام، بياناً فصيحاً ونهائياً بهزيمتهم. والذين ينحازون إلى الخيار الثاني، يخوضون الرحلة مجدداً، ويلزمهم مضاعفة الجهد، لكي يعوضوا ما خسروا من وقت، ويلحقوا بمن سبقوهم. إلا أنهم اجهدوا قواهم واستنزفوها خلال الرحلة الخاسرة.

وهم لذلك السبب، يصلون، متعبين، إلى نقطة تتموضع في منتصف المسافة بين نقطة البداية ونقطة النهاية. ومن مكانهم يرون النقطتين. المحنة، أنهم لا يستطيعون العودة إلى الوراء، ولا يقدرون على مواصلة السير للامام. وهم في ذلك مثل عثور مولاي، بطل رواية “سأهبُكِ غزالة” للكاتب الجزائري مالك حداد، على غزالته المنشودة، تلك التي تشتهيها، معشوقته التارقية يمينه. إلا أن مولاي، حينئذ، كان يعاني سكرات الموت عطشاً، بعد ضياعه في الصحراء، حين جاءته الغزالة، ووقفت قربه، واضعة خيطومها على وجهه. ولم يكن باستطاعته التأكد إن كانت تلك غزالته المنشودة، أم أنها وهم سراب الظما!

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …