الجميّل الـ”هوم” 2
فتحية الجديدي
كنت أعد المنازل الصغيرة المبعثرة التي تفصل بينها مزارع شاسعة تلونت بالنبي والأخضر الغامق, طول طريق يؤدي لمدينتي التي أنتمي لها ولا أعرفها .. كان ذلك قبل ثماني وثلاثين عامًا, حيث لم يحل صغر سني بيني وبين علامات وضعتها لتبيان تفاصيل الطريق.
أتذكر (كوربة الجميّل) التي تعني مدخل المدينة, والبيوت المتشابهة يمنة ويسرة, والمنزل الأبيض المكتوب على لوحته الخارجية (منزل عجاج) والمدرسة المقابلة ذات الأسوار المنخفضة, تطل من ورائها ساحة كبيرة، وبائع الحليب الذي يرتدي زياً كنت أستغربه مزج بين الأصالة ولوازم الشغل.
عبرت بذاكرتي صوب السوق العالي ومحطة الركاب ومبني المحكمة الجزئية والحديقة العمومية الصغيرة ذات السياج الحديدي القصير, ثم مضيت نحو جلستي مع عمي حين كان ينتظر شحنة الشعير تأتيه من خارج المنطقة استعدادا لموسم الحرث.
ما يزال بالمنسابة صوت (القلية) في أذني بعض نضج موسمه وتحوله إلى زوادة معتمدة لا يخلو منها مخزن زوجة عمي رحمها الله.
كنت أراقب طريقة تحضير (الزميتة) قبل طحنها لتكون برفقتنا أثناء عودتنا إلى طرابلس بهيئتها الأخيرة التي تفوح رائحتها داخل سيارتنا الصغيرة ” الفولكس فاجن” ، بعد سفرة إفطار من الروب والجبن والخبز المطهو بالفرن الطيني ورقرقة أكواب الشاي الثقيل المصفى ، بعد وجبة الغداء الدسمة في انتظار فسحة المساء التي كانت تعول عليها طفولتي والركض في الحقل المجاور لبيت عمي وسرقة بعض عناقيد العنب (نص طياب) شديد الحموضة، وقطف أزهار اللوز الأبيض، وأتذكر حين يأتي الجميع في “ودودة” كلامية ودودة عن الحال والأحوال مع آخر أخبار السوق ونوع السلعة المقبلة ، لم أنس نظرات عمي وابتسامته الجميلة التي فرضتها وسامته وهو يخبرني (أنت أي صف تقري توة)؟ أجيبه بفرح بأنني دخلت الصف الخامس وأعي جيًدا حب العم وكم كان الجميع يحبونه ويقدرونه ، وسرعان ما نفضت الليلة التي كلّلت بالحكايات مع خزائن الغرف القديمة والأبواب المرصعة مقابضها وألوان السراميك الهادئة على أغلب جدران البيت وشجرة العنب المتسلقة و(الفستقية) التي تتوسط البيت ذات الطراز العربي القديم وغرفة الجلوس الخشبية مع فرش ثقيل أحمر والمطبخ الكبير المتسع لدرجة أنك تضيع في أرجائه.
أما المربوعة الخارجية فلها حكاية أخرى, لأنها كانت مكان جلسة عمي التي لا زلت أذكر تفاصيلها وسرج الخيل الموجود في أحد زواياها ورائحة وزرته التي عانقت ذهني كأنه عنبر ممتزج بإكليل الجبل والسيف المعلق علي الواجهة أتمعنه في كل زيارة والطاولة المزينة بشهائد ووثائق قديمة تعود للعهد الاستعمار الايطالي التي يسميها عمي (الكواغط) وورقة تحمل اسمه بعد عودته من الأسر عرفت من خلالها أنه شارك في إحدى الحركات الجهادية في المنطقة الغربية ضد المستعمر.
عدنا لبيتنا في صباح اليوم التالي أحمل كل هذه الصور وغيرها الكثير منها ما يعج به عقلي وأخرى نفض بها قلبي حنينا، فخورة بك عمي “امحمد صالح الجديدي” ..
رحمك الله