جَغّ، يَجُغُّ،…
بقلم// جمعة بوكليب
زايد …ناقص
كنتُ أبحثُ في معاجم اللغة المتوفرة في الشبكة العنكبوتية، عن معنى فصيح لكلمتي “جغ ومغ.” فعثرتُ على معنى فصيح للأولى.
جَغّ: بمعنى طعنَ بالسكين أو بغيره. ولم أجد للثانية مغّ معنى فصيحاً. إلا أني عثرتُ صدفةً على مثل عربي يقول “لكل عاقل غجّة” أي هفوة. والكلمة “غجّة” لا علاقة لها بمصطلح “جغ مغ” المعروف، والمنتشر في اللغة المحكية الليبية. فمن أين جاء ياتُرى؟ وكيف تمّ اشتقاقه أو نحته؟
“جغ مغ” تعني ثرثرة فارغة، أو كلام بلا معنى. ولا أعرف إن كان المصطلحُ معروفاً في لهجات بلدان عربية أخرى. وحين تصف كلاماً بأنه لا يزيد عن جغ مغ، فأنت تصفه بأنه غير مفيد، ومضيعة للوقت.
وفي فترة زمنية سابقة، كنتُ أتابعً سلسلة مقالات، كانت تنشر تحت عنوان:” جغ مغ” في صحيفة ليبية ثورية.
وأتذكر أنني استغربت، بل ودهشت كثيراً، حين عثرتُ في أحد الأعداد على مقالة بذلك العنوان، في صحيفة يفترض أنّها ثورية جادّة، ولا مجال بتاتاً بها للجغِّ والمغِّ. ويحررها ويكتب بها ثوريون، يبشّرون بعصر الجماهير.
الغريب، أن كاتب تلك السلسلة من المقالات كان من كبار المُنظّرين الثوريين حينذاك. وتولّى مناصب وزارية في عدّة حكومات.
تلك السلسلةُ من المقالات كانت “جَغّاً مَغّاً” بحق وحقيق، مطابقاً لما يؤكده العنوان. ويستحق كاتبها أن يُمنح جائزة معتبرة.
وكنتُ كلما قرأتُ مقالةً من تلك المقالات، أعيد قراءتها مرّة ثانية وأحياناً ثالثة، بغرض أن أفهم مقصد الكاتب. لكنّي، وهذا أعتراف، فشلتُ فشلاً ذريعاً، حتى كدتُ أشكُ في قدرتي على الفهم والاستيعاب.
تلك المقالاتُ تستحقُ، في رأيي الشخصي، أن تجمع وتنشر في كتاب، وتجرى مسابقة، تمنح جائزة مالية كبيرة لكل من يتمكن من فهم محتوى مقالاته أو حتى بعضها. فأنت، سواء قرأت المقالة من فوق لتحت، أو من تحت لفوق. من اليمين لليسار أو من اليسار لليمين، لن تفهم شيئاً، مهما أوتيت من فراسة وذكاء ودهقنة.
ولأنّي أعرف الكاتب شخصياً، فقد استبعدت من ذهني فكرة أن يكون، لا سمح الله، أحمقاً أو غبياً. والحق يقال إنه مشهود له بالذكاء والفطنة.
ولا يمكن اطلاقاً أن تلصق به صفة مثل الغباء، هذا اولاً. وثانياً، لأن الأغبياء، كما نعرف جميعاً، لا يمكن أن يصلوا إلى أولى الصفوف في المجتمع الجماهيري الجديد، أو يعتلوا أعلى الدرجات، و يتقلدوا أرقى وأخطر المناصب، ويكونوا من قيادات النظام الجماهيري. وبالتالي، فإن تفسيري الذي هداني إليه تفكيري حينذاك، هو أن كاتب تلك السلسلة من المقالات، تعمّد، عن سبق إصرار وترصد، كما يقول أهل القانون، أن يضعها تحت ذلك العنوان المثير والمريب، وفي ذات الوقت، تقصّد ألا يقول شيئاً مفيداً. ولذلك السبب، ظل يحرص على الدوران في نفس النقطة أو المكان في كل مقالة.
وهذا ذكاء منه، وتمكن من خلاله من ضرب عدة عصافير بحجر واحد. فهو مثلا حافظ على ظهور اسمه في تلك الزاوية الأسبوعية من الصحيفة الثورية، التي يقرأها الثوريون في كل البلاد وخارجها، وأولهم رئيس النظام: الأخ القائد. وكذلك، أبدى قدرة على ألا يقول شيئاً قد يرمي به إلى التهلكة، ونجح في ذلك. والأهمُّ، أنه حافظ على مكانته كواحد من كبار المُنظّرين الثوريين والمهمّين. بمعنى أن عدم فهم القرّاء، لمحتوى تلك المقالات، دليل على قصورهم فكرياً وثورياً عن استيعاب ما كان يطرحه من آراء.
وبذلك، لله درّه، جعلَ من الـ” جغ مغ” فَنّا وعِلماً.