محمد الهادي الجزيري
كنت أنوي الكتابة على آخر كتاب للصديق الكاتب مفلح العدوان ، وكان عنوان المتن المقصود ” مرثية الوتر الخامس ” وهكذا عزمت ..ولكن إطلالة على كتاب آخر راودت فيّ القارئ وها إنّي أتوغّل فيه تدريجيا ..وأقدّم المجموعة القصصية ” هب لي عينا ثالثة ” بعد أن شدّني النص الأول في الكتاب ..، ولذا سأبدأ به هذه القراءة العاشقة ..فقد مرّ عمر كامل ولم ألتق بصديقي الحميم…
قصة أولى بعنوان ” قمقم ” ، وأوّل ما يتبادر إلى الذهن حكاية العفريت والقمقم والأمنيات المحقّقة ..، ولكن الكاتب يباغت الجميع بأنّ المارد الساكن في القمقم ليس سوى رجل هزيل ومعدم وفي أرذل سنّ ، ولا يلبي طلبا واحدا فبالعكس يبهت حين يسمع عبارتي ( شُبيك ولُبيك ) فلا معنى لها في قاموسه الحديث ..، خلاصة القصة : يا قوم عوّلوا على أنفسكم وجهودكم وانسوا القماقم جميعها ..فهذا عصر الاعتماد على الذات ..، أمّا قمقم مفلح العدوان ..:
” وتركته يواجه مصيره
بعد يومين ، رأيته جائعا ، يتسوّل أمام الإشارة الضوئية ”
هذا نصّ ..مرّ بي عشرات النصوص ولم أشعر بهذا الدوار الذي يلّف بي ، ما أجمل أن تقرأ نفسك في ما حبّره قلم وروح صديق ، انتهيت الآن من قراءة ” هب لي عينا ثالثة ” التي أهدت للمجموعة عنوانها ، وما زلت مدهوشا بما قرأت ، نعم مازال فينا كتّاب يعبّرون عنّا حين يخلصون للكتابة ..، والكاتب في هذا المتن المنساب كدفق من الماء أو المتوهجّ كنهر من النار..، يتطرق إلى موضوع لا يراد الخوض فيه كلّ ( الكتّاب اللطفاء ) ، موضوع الإحساس بالغربة والضيق والاختناق وسط حشود تدّعي التواصل معك معرفيا واجتماعيا ..وهي أبعد ما يكون عن هذا الادعاء ..، عبّر مفلح عدوان عن كلّ ذلك بجملة وحيدة ومكثفة :
” الغربة أن تكون وحيدا وسط جموع تعرفك ، ولا تفهمها ”
افتتح القاص مجموعته بملاحظة بيّن خلالها إنّه قسّم الكتاب إلى أجزاء قريبة من بعضها البعض في الطقوس وتقاربت في مناخاتها ..وقد قال في هذه الإشارة :
” لعلّها أجزاء اكتملت حين اجتمعت بين دفتي كتاب ، ولذا أعطيت عنوان ( جزء ) لكلّ مجموعة قصص تقاربت في مناخ واجد ، واتسقت فضاءاتها لتنوّع الأجزاء ، غير أنّها في مجملها تشير إلى روح فسيفساء إلى الكتابة المتآلفة ، رغم جروح الشظايا المتناثرة ”
في قصة طريفة ، قصيرة وخاطفة كحلم ، وردت بعنوان ” أيّام الأستوت ” ، ويُظهر فيها مفلح العدوان قدرته على مباغتة القارئ في نهاية المتن السردي ، يبدأ أوّلا بالتعبير باشمئزازه من يوم الراحة الأسبوعي وقلقه منه ، ثمّ يسرد علينا فكرة تلخيص الأسبوع في ستّ أيام وبذلك يرتاح هو ونرتاح نحن ..وفي الأخير يعلمني أنّه بمجرّد الإعلام عن مشروعه القاضي بتنقيص عدد أيام الأسبوع إلى ستّ ، حتّي انهال عليه خلق الله ، أحدهم بالفتاوي وبعضهم بالتهكّم والسخرية منه ..، وهنا يباغتنا إذ يكمل جملته :
” ..واحد فقط هو الذي حاء إليّ ونصحني ، قال : خيارك في اليوم الذي استثنيته من الأسبوع ..إنّه يحاصرك ، قلت : لكنني لا أريده ، قال : إنّه أنت ، وتذكّرت تلك اللحظة أنّ اسمي هو جمعة “……
هذه جولة عاشقة في بستان أحد الأقلام النافذة والفاعلة في السرد القصصي المعتمد على الكسب المعرفي وعلى ما خزّنته الذات من أسئلة وأحزان جمّة ..، خلاصة القول هذه تحية لصديق مرّ الكثير من الوقت دون أن أتواصل معه قراءة وفهما وإعجابا ..، سلام على المبدع الذي فيك يا مفلح العدوان ……