جمال الزايدي
القوة الوحشية للحضارة ماكانت لتتحقق إلا في ظل انفصام مؤلم بين العمل وغائيته الأخلاقية ما وضع المسيرة على سكتي قطار متوازيتين متجانبتين ..وعندما تحالف رأس المال والعقل بعيدا عن رقابة الحس الفطري بالعدالة والحق وبقية القيم الإنسانية ..تواترت الفتوحات الفكرية والكشوفات العلمية في متواليات بطيئة حتى أشرق عصرنا الحديث الحافل بالإنجازات التقنية الهائلة في حقل الاتصالات والمعلوماتية وغزو الفضاء وحل شيفرة الخارطة الوراثية ..
كل هذه الخطوات الواثقة نحو قمة سيطرة الكائن البشري على الكوكب ومصيره كانت تتحقق بعيدا عن الضمير والحس الأخلاقي الإنساني الذي شكلته مراحل ما قبل استبداد العقل المادي ومفاهيمه ومبادئه الصماء برغم تلفعه بالموضوعية القائمة على الشك ..
الإحساس بالسيطرة وهتك سجف الغموض في الطبيعة والحياة ، الذي كان قد فرض على أسلاف إنسان الحداثة ومابعد الحداثة عبادة الشمس والقمر والرعد والبرق والبراكين وكل مظاهرالوجود المخيفة ..هو ما أطلق العنان لكل طاقة التوحش والدموية وأغرق التاريخ الحديث في حروب ومواجهات واقتتال بربري ذهب ضحيته مئات الملايين ، غير الكوارث التي طالت النظام البيئي وتسببت في الاحتباس الحراري وزيادة نسبة التلوث ، وأخيرا نشر الأوبئة مجهولة المصدر وغير معروفة السلسلة الجينية ..
اليوم والجنس البشري يحدق في وجه الفناء نتيجة الرعب من الموت الأسود الجديد الذي انطلق من عقاله متمثلا في فايروس كورونا « كوفيد 19 «..تستحق هذه المحطة – إن لم تكن محطة النهاية – أن تكون مناسبة لمراجعة مسيرة الحضارة في تمظهرها الأخير ، المتهم وفق فرضيات عدة بالمسؤولية عن هذا البلاء اللعين الذي يحيق بالوجود الإنساني برمته ..فثمة فرضية تقول إن الفايروس مخلق في معامل سرية وتم تسريبه قصدا لغرض التخفيف من الزحام البشري الذي لم تعد الموارد الطبيعية المحدودة على ظهر الكوكب الأزرق تغطي احتياجاته ..فرضية أخرى منسوبة لعدد من العلماء تزعم أن الفايروس المرعب قادم من كوكب آخر بدليل أنه لا يتأثر بتبدل الفصول والمناخ بعكس معظم الفايروسات ذات المنشأ الأرضي ..
بغض النظر عن وجاهة وصوابية هاتين الفرضيتين وغيرهما من الفرضيات الأخرى التي تتناولها مساهمات المهتمين ، فإن مسؤولية العنصر البشري عن هذه الكارثة التاريخية ، مسؤولية مباشرة مبرهنة بالقرائن والأدلة .. وإذا نجا الجنس البشري من هذه الحماقة فهو بكل تأكيد ملزم بإعادة فحص الأساسات التي نهضت عليها فكرته عن التقدم والحضارة ..