زايد… ناقص
جمعة بوكليب
صبيحةُ الثلاثاء قبل الماضي، وجدتُني ضمن عديدين، من الجنسين، جاءوا من أماكن متفرقة في مدينة، تبدو في السنوات الأخيرة، لمن يعرفها جيداً، وابتعد عنها لفترة من الزمن، ، وكأنها فقدت هُوّيتها، وأضحت غريبة أكثر من غرابة نبي الله صالح في قومه ثمود. تلوثَ هواؤها بعوادم السيارات والمولدات واللهجات الغليظة وروائح البارود.
التقى الجمعُ في صالة كبيرة فخمة وتاريخية، من صالات قصر بناه المستعِمرون الايطاليون، في الثلاثينيات من القرن الماضي، في منطقة مرتفعة قرب البحر، تسمى الظهرة، وجعلوه مقراً للحاكم الفاشي، وصار، فيما بعد، معلماً ايطالياً بارزاً من معالم العاصمة، بمعمار اسلامي جميل، تزيّنه قبابٌ مذهبة وأقواسٌ وشرفاتٌ ونوافذٌ عالية، تُطل على حديقة غنّاء، تُذكّر المرءَ بما قرأه عن جنّات العريف، والحنين إلى زمان الوصل بالاندلس. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة الطليان والالمان تمّ تغيير الحاكم الايطالي بقرار من الأمم المتحدة بآخر ليبي برتبة ملك، وتبع ذلك تغيير اسم القصر الايطالي بآخر عربي. وصاريعرف باسم قصر الخُلد العامر.
الصالة الفسيحة بالقصرالمذكور، الواقعة بالطابق الأول، خصصت لاحتضان ندوة اقامتها وزارة الثقافة تحت عنوان:” أسئلة الثقافة الليبية.” الندوة واحدة ضمن فعاليات عديدة، شملها برنامج ثقافي وفنّي متنوع لمدة يومين، أعدّه فريق متخصص من الوزارة لمدة. لكنّي شخصياً لم أتمكن من حضور فعالياته الأخرى المتنوعة، لضيق ما توفر لديَّ من وقت، استحوذت عليه مشاغل عائلية محزنة.
د. أحمد الرشراش أدار الحوار والنقاشات في تلك الأصبوحة المميزة، التي تولّى الحديث فيها ثلاثة من الاساتذة وهم على التوالي: السنوسي حامد ومنصور بوشناف وعبد الحكيم كشاد. الأول منهم تباوي لا أعرفه، ولم أسمع به من قبل. والإثنان الآخران كاتبان معروفان.
ما يميز الندوة أنها عُقدت في ذلك القصر المنيف، وفي فترة زمنية حرجة سياسياً وثقافياً، لمناقشة ما يشغل الثقافة الليبية من هموم وأسئلة، ذات صلة مباشرة بالهُوّية الليبية، في وقت تتعرض فيه الاثنتان ( الثقافة والهُوّية) إلى هجوم شرس من قبل ثقافة دينية سلفية متنمّرة، لا يحتوى معجمها اللغوي على ضخامته على مفردة ثقافة، وتحرّم مفردات مثل وطن ووطنية، وتحارب بعنف الفنون بتنوعاتها، وتصنّف الكتاب والمثقفين والفنانين تحت خانة الشياطين.
قبل ذلك، تعرضت الثقافة والهُوّية الليبيتان منذ عام 1969 إلى موجات عدائية شرسة، قادها النظام العسكري السابق، ومن دخل في زمرته من بقايا القوميين العرب، ووجهوا سهامهم المسمومة نحو المثقفين الوطنيين الليبيين بهدف المحو والاجتثات. وفي فترة تالية حُرّم على وسائل الاعلام ذكر اسم ليبيا، بل أن الاسم الرسمي للدولة بعد عام 1977 رغم طوله وغرابته لا يحمل أي اشارة إلى اسم ليبيا.
الثقافة الليبية متعددة المكونات: حَضَرية وبَدوية وريفية. وجميعها تشكل الاطار العام للثقافة الليبية، وجميعها تتلاقى وتتلاقح داخل دائرة أكبر وهي الهُوّية الليبية. آخذين في الاعتبار ما تعرّض له الاثنتان في الماضي من محن وعداء طيلة اكثر من نصف قرن، وما يتعرضان له حالياً من تهديدات، كان، في رأيي الشخصي، من الاجدى للندوة مناقشة الكيفية التي يمكننا من خلالها، كمثقفين وكُتّاب وفنانين، جبر ما أصاب الثقافة والهُوّية في ليبيا من كسور مركبة، وما نالهما من تغييب متعمد، وما تعرضا له من حروب ضارية، اضطرهما إلى الانزواء هرباً من الملاحقة في جيوب صغيرة طيلة تلك الفترة الحالكة. والتعرّض إلى مناقشة التهديدات التي تواجههما حالياً، وترك مناقشة الاسئلة التي تطرحها الثقافة في مرحلة لاحقة.