محمد الهادي الجزيري
بي حنين إلى ذوات كثيرة وأشياء شتّى، ومشتاق بشكل شرس إلى أمّي، تلك الشجرة الحانية التي انتهت قبرا واجما، زاده البياض حيادا، أين منّي وجه أمّي، بسمتها الأصفى من الصفاء، عتابها لي آخر الليل وتحفيزها للشاعر القانط كلّ صباح، أين منّي حضنها وغناؤها وهي تهدهدني أنا الطفل والشاب والكهل، لم أعرف اليتم يوم غاص أبي الرحيم في التراب، واليوم تشهد كائناتي وأشيائي أنّي اليتيم، كهل نعم ومشرف على هوّة الستين ولكنّي أحتاج أمّي بكلّ ما في النفس من شجن وحيرة وخوف وغضب، أحتاجها لألعن في حضرة عينيها الحليفتين غلمانا أكلوا من جرابي وشربوا من كأسي واستظلّوا بظلّي…، لم أبخل عليهم بشيء وعلّمتهم الرماية والغواية والشدو، واليوم تحلّقوا في كلّ بؤرة وحضيض، لنهش لحمي وحروف اسمي…، آه أمّي كيف سمحت لنفسي بتسليمك إلى التراب؟…..
حنيني شائك ومتشعّب مثل حزني تماما، وكياني مكتظّ بالوجوه والذوات، لكم أتوق إلى عناق ابنة الجيران، وليس السيدة التي افتكّت منها اسمها وبعضا من دلالها وغنجها، أنا أشتاق إلى الأخرى .. الزهرة الرهيفة والموجة المنسابة والمجنونة مثلي، لا.. بل مثل ذلك الطفل الأشقر الذي سطوت على اسمه وبعض من ملامحه وعناده، أين منّي ترنّحنا في حرائق الشتاء والصيف، أين منّي جسدان شرهان لطفلة وطفلة، أين من رأسي المتصدّعة خلوّ الذهن من كلّ همّ وازدحام القلب بوجه فاتنتي البريئة من كلّ دم، أين منّي مواؤها السريّ في طيّات الحيّ الشعبيّ….
خساراتي فادحة أيتها الحياة، فقدت صلاح الدين ساسي الشاعر الصديق الذي قرّر في ربيع 1988 أن يتأرجح في غصن شجرة، ثمرة لم تنضج ولم يحن قطافها، لكنّها متاحة ليد العدم..، خساراتي فادحة أيتها المهزلة، أضعت في الطريق رفيقا آخر، شغف به الموت وقد كان ” آخر زهرة ثلج *” ، لكم عاند محمد البقلوطي موته الذي اتّخذ في البداية شكل مرض السكّري واندسّ في خلايا الشاعر العاشق ..ثمّ حجب عن عينيه نور الحياة ووجوه من يحبّ، وبعد أن ذهب ببصره أتى على جسده النحيل ، وكانت كلّ عناصر الجمال والشعر والحبّ تصرخ : ” لا تمت يا محمد *” لكنّ محمّدا استسلم في النهاية وبعد عناد أسطوريّ لقدره الغاشم….
ما أطول طابور خساراتي : رعد مطشّر المخرّب بالرصاص في عراق الدم والغمّ والجنون، بختي بن عودة المذبوح في جزائر السكاكين وبقر البطون ، رضا الجلالي الذي أتلف كبده عمدا بما سكبه في حلقه من عطور، … ما أطول طابور خساراتي وما أحلك هذا النصّ، رغم أنّه قطعة صغيرة جدّا من الغيمة الكامنة فيّ، هل أنا حيّ لأموت؟، وهل من فقدتهم ليسوا أجزاء منّي؟، ألم تمت منّي أجزاء كثيرة؟، وإن كان لها أسماء أخرى وعناوين قريبة وبعيدة، ألم تكن أختي الرائعة البهيّة أطوار بهجت قطعة من نفسي؟ ، ألم يقتطع منّي الموت أشجارا شاهقة ونفوسا عظيمة؟، … فكيف لم يأبّني أحد إلى حدّ الآن ..بل إلى حدّ هذا الحزن والموت اليوميّ؟، ألا بدّ من انقطاعي عن توريد دخان السجائر إلى رئتيّ المذهولتين ليتمّ إعلان موتي؟، وهل عليّ تغيير لحاف كوابيسي بكفن شديد البياض لكي يصعق الأصدقاء ويرقص الأعداء ويوقنوا أنّني جثّة تسعى في أسواق الحياة وتصطدم بالأضداد والحواجز الكثيرة؟
ميّت أنا ومشتاق إلى الحياة، ” يا أيّها الموتى بلا موت تعبت من الحياة بلا حياة *” مشتاق إلى القصيدة .. لم تزرني منذ ليال طويلة ، ومع ذلك مازلت أحبّها وأحبّ من تحبّه ويحبّها ، ما زلت أهذي من حنين وحمّى :
” أيها الشعراء
قد انتصف الليل ولم تأت قصيدتي بعد
أحدس أنّها تخونني مع أحدكم
وأرجو أن يكون فحلا ”
* عنوان إحدى مجموعات الشاعر التونسي الراحل محمد البقلوطي
* جملة تكرّرت عديد المرّات في آخر قصائده
* من مدوّنة الشاعر سميح القاسم