منصة الصباح

القاص الفلسطيني نعيم الخطيب :يحدث أن يباغتنا الجمال وجهًا لوجه

حاورته: وجدان عياش

كاتبٌ مسكونٌ بولهِ الحرفِ ،ومع هذا لا يجدُ وصفاً لغزّة الصمود ، وكان الأمر أشبه بأن يصف العاشق نفسه، يحمد لله، ويسعى للحياة بكرامة،رغم صعوباتها، ولا يرى نفسه يتنعم بالحياة في مكان آخر غير غزة ،يقول هامساُ.. هنـاك أشيــاء لا نملكُ فيها الخيار، مثل آبائنا، ومع ذلك لا نملك إلا أن نحبهم.

كاتبٌ وقاص قريبٌ حد الانتباه السكرى ونحن نوقِظُ صباح غزة بِلهبِ حروفنا ، وبعيدٌ حد عويل أمةٍ تُحاولُ نزع خنجر ذلها ، صوته الآتي من رائحةِ خبزِ الصاج .. قاصٌ يُبدِدُ ماء المعنى ويبوح بالحرفِ الآسر ، المحه يصرخُ ، يتوجع ، يشتهي ، وفي نهايةِ هذا النزف تتشكلُ العطايا ، تفجرُ سرَ الكون وتغدقُ على الورقِ نبيذها المحموم ، فكان لها المأوى بعد رحلة كشفٍ لعوالم الحرف .. أنه الكاتب والقاص الفلسطيني ( نعيم الخطيب ) ولِد في مخيمٍ ما، في مدينة رفح، في جنوب قطاع غزة، عام 1968، من أسرة لاجئة من قرية القبيبة في قضاء الرملة.

ـ أنهى دراسته في مدارس المدينة، عام 1986، وأنتقل للدراسة في جامعة بيرزيت، تم إغلاق الجامعة بعد عام ونصف بقرار إسرائيلي.

ـ توجه بعدها إلي الجامعة الأمريكية في القاهرة، وحصل على بكالوريوس في علوم الحاسوب، مع تخصص فرعي في المسرح، عام 1993.

ـ أكمل دراسته بعد زمن في جامعة كولورادو في الولايات المتحدة ليحصل على درجة الماجستير في علوم الحاسوب، عام 2003، وعاد كعاشق مُتيم  ككل مرة إلى قطاع غزة.

ـ عمل في مؤسسات خاصة، وحكومية، ودولية في قطاع غزة.

ـ لم يمارس الكتابة بشكل عملي إلا في وقت متأخر، وصدرت له مجموعة نصوص سردية بعنوان على الغارب، عن دار أزمنة، عام 2010، وله مجموعة أخرى تحت الطبع حالياً.

ما الذي يخفيه توهج الحرف فيك مُنذ نشأتك الأولى وحتى صدور نصوصك السردية ( على الغارب ) ؟؟

شجرة كينا كان لها اسم،  قصص أبي ذاتها كلّ مرّة، حفرة في الطريق إلى المدرسة، بيت جدّي بعد الهجرة، صبر أمّي على أمّها، وجوه، وأماكن. ربّما كلّ هذا، وربّما حزن لا تخفيه الأقنعة.

وحدث ذات مرّة أن أفقدتني الحرب  كثيرًا من ذكرياتي، فخفتُ  أن تنسال حياتي من بين أصابعي. وعندما صرتُ خفيفًا، اكتشفتُ وقتها أنّ لديّ قليلاً كافيًا من الحبّ والأصدقاء، و أنّ لديّ حصيلةً من الحكايا الّتي تستحقّ أن تُحكى ـ أو هكذا خيّل لي.

 أبوابُ الريحِ تُأسِرُ ظلي ، المحه فتياً يتعاطى الشجنَ ولا يتوب عن تدليلِ الحرف ، بين الاكتفاء والفقد روحٌ مسكونةٌ بهواجسِ القلق ، أهنالك ما يثيرُ الرضا ؟

الحياة موجعة وقصيرة، لا سيّما لشخصٍ قلقٍ، مسكونٍ بالتّفاصيل. يحدث أن نلهو قليلاً، ثمّ ننتبه أنّنا صرنا آباءنا. ومع كل هذا نتساءل كلّ يوم: أهناك ما يستحقّ الحياة حقًّا؟ فيباغتنا ما يلمس أرواحنا، هامسًا: لست وحيدًا هنا.  يحدث أن يباغتنا الجمال وجهًا لوجه في ابتسامة طفلٍ، وفي لحظة ذروة مقطوعةٍ موسيقيّة، وفي لحظة تجلّي ممثّلٍ على خشبة المسرح، وفي كلمةٍ من أربعة أحرف، وفي سطرٍ في نهاية نصٍّ خطّته الشّهقة.

 دلعونا وميجانا وع الأوف مشعل أوف مشعلاني ..، متى وكيف نستفيد من توظيف التُراث والحكايا الشعبية في نصوصنا الإبداعية ؟

التّراث والحكايا الشّعبيّة ستحضر غير مدعوّةٍ في النصّ دلالاتٍ، وتناصًّا، وأشكالاً أخرى، لأنّها تشكّل مكوّنًا هامًّا في معرفتنا، وهويّتنا. ما يثير اهتمامي في الأمر ـ وغيرتي أيضًا ـ هو ذلك الشّيء الّذي يجعل من الحكاية أو الأغنية عملاً كلاسيكيًّا، عابرًا للأزمنة. ذلك الّذي يجعل (الرّوزنة) كأغنية، أكثر أهميّةً من كاتبها وممن ذهبو في السفينة، ويجعل (وحدن) كأغنية أكثر أهميّةً من ثلاثةٍ مرّوا في الغابة، ويجعل قصّةً لكاتبٍ معاصرٍ موضوعًا لبريدٍ الكترونيّ يتناقله الجميع دون معرفة كاتبه. يبدو أنّ صناعة الأسطورة أمرٌ ممكن.

 على حافةِ جِدارِ الفصلِ العنصري وطنٌ شُرِدَ بِظلِ شجره ورائحةِ خُبزِ صاجه وجنونِ العشقِ مع نسائه ، احتلالٌ ، تجريفُ وهدمِ بيوت على أحلامِ أهلها ، كيف لنا ونحنُ المُنشغلين بوهجِ الحرفِ أن نُباغِتَ هذا الجِدار ونخرجُ من نفقِ الاحتلال لبوابةِ نشيدِ الأرضِ ؟

هذا موضوع يغري بالتّنظير، دعيني أجرّب: سنخرج من نفق الاحتلال عندما نتيقّن أنّ الضوء في آخره ليس قطارًا أهوج بلا كوابح. أمّا بعيدًا عن التّنظير، فبأنّ نهدم جدرنا الصغيرة/ أقنعتنا، بأنّ نحبّ الحياة كما نحبّ الموت، بأنّ نحتفل بمستقلّينا، بأنّ نرى القيمة والضّرورة في اختلافنا حتّى مع ذواتنا.

 كثيرٌ من الرمادِ جانبَ ثورةِ الربيعِ العربي ، ثمة دماءٌ بريئةٌ سُفِحت على بِساطِ حاكمِ من ذلٍ ، ثمة رموز لطخت مسيرة نِضالها وتغافلت عما يرتكبه مريديهم من تجاوزاتٍ ضد شعبٍ أعزل إلا من أبسطِ حقوقه المشروعة أن يحيا بكرامةٍ ، ما موقف المثقف العربي من مُنعطف خطيرٍ كهذا في تاريخِ أمتنا التي تعودت على النكبات ؟

كغيرهم ـ وربما أكثر قليلاً ـ حتماً سيتأثر المثقّف والكاتب بالحدث. يغريني القول أنّ على المثقّف أن ينتصر للحقّ والحريّة. ولكنَّ ما سيأتي سريعاً، سيكون حماسيّاً، متعجّلاً، وربّما راكباً للموجة. وأمّا الجميل والأصيل فسيأتي متأنيّاً، ناضجاً، لكي يبقى.

علّمني التاريخ وعلم الاجتماع أنّ الظلم والفساد لا دين لهما، وأنّ الثّورة والسّلطة تتبادلا الأدوار، وأنّ هناك دائمًا مساحة أكثر من كافية للسّياق وللتّأويل. على المثقّف أن يعتذر كثيرًا؛ فالثّبات على الموقف الخطأ هو اختصاص السّياسيّ فقط، وعليه أيضًا أن يختار جيّدًا متى يصمت – ساكتًا عن الفتنة، وليس الحقّ.

 نكتبُ .. كي نكونَ أكثر قُرباً من غِناءِ الريحِ والبحرِ ، أيُ الصرخات أقرب لِفيض روحك ، القصة القصيرة في ومضتها الساحرة ، وهي تختزل بِشارة رؤانا ، أم الرواية في تجردها من السائد والمؤطر ، وهي تحظى بِسردنا ؟

نعيم -6 الفكرة لا تأتي عادةً مجرّدةً من إطارها، ويتطور بناء الشّكل أثناء الكتابة. أهتم بالشّكل الأدبيّ، ولا أفكّر فيه كثيرًا. يغريني النصّ القصير، المقتنص للفكرة، الملخّص للمفارقة، الصّانع للدّهشة، المختزل للغصّة، السّاخر من الألم والذّات أحيانًا. وتغريني اللّغة السّهلة، الرّشيقة، الّتي يفصلها عن العاديّ خيطٌ رفيع. ليس مهمًّا بعدها إن صُنّف ما أكتب قصّةً قصيرةً، أو نصًّا مفتوحًا، أو قصيدة نثر.

الرواية أمّ الأشكال الأدبيّة جميعها، وكلّ كاتب لديه مشروع رواية – ربّما روايته الشخصيّة. أنا أبدّد روايتي ساردًا، وربّما أخطّها دون أن أخطّط لها. أعتقد أنّ نصوصي جميعها فصولٌ في روايةٍ غير مكتوبة.

ولكن الحقّ أنّني أنحاز وجدانيًّا للمسرح، المسرحيّة هي حتمًا مشروعي المنتظر.

يقول الشاعر الفلسطيني محمد القيسي (( بمن يُنددُ النشيد ؟ هل يقول المديح جديداً في الممدوح الذي يُعري مناخ المادح ويفضح طقس العرب ، هي ذي محنة الإنسان البعيد عن رماة الحجارة والمكان ، محنة الشاعر وموته الصرف أو حياته ، هي ذي ساحة البأس الباذخ ، واليأس العظيم ، وهو الحجر الذي لا يعطيك نفساً لالتقاط نفس ، أمام الدهشة المتوالدة في تتابع لا انقطاع فيه ، أمام هذا النطق الفصيح لحجارة الشعب ، هكذا تنطق الحجارة عنا )).

أكان علينا أن نُمني الروحَ بِنصرٍ قريبٍ وخنجرُ الصلبِ يُحكِمُ غدره على رؤى تماسُكنا كأمةٍ يجمعها هدفٌ واحدٌ ورؤى واحدة ، أهي حتمية النضال ودور المثقف المُنشغل بقضايا شعبه حثتك على مُثابرةِ الكتابة؟

نعيم -7 //لا هذه ولا تلك! لا أدّعي النضال ولا الثّقافة. لقد بدأت الكتابة متأخّرًا ـ بمعنى نشر ما أكتب ـ  مدفوعًا بإحساس الفقد، واقتناص الجمال. أنا أسرد حكايتي فقط، وليس مصادفةً أنّها حكاية فلسطينيّة. القاسم المشترك فيما أكتب: هو ذاتي. أحاول أن أتحرّى تورّطي فيما أكتب وصدق الإحساس والتجربة. ليس مهمًّا بعدها إن جاءت الكتابة عن بيت جدّي في القبيبة، أو كتابٍ أكلته الحرب قبل أن أكمله، أو تمثالٍ لسيّدة متخيّلة في مدينة لم أزرها سوى مرّةٍ واحدة.

لا أعرف بخصوص المثابرة؛ أنا لست كاتبًا متفرّغًا، يثقلني تعدّد الأدوار الّتي ألعبها في حياتي، وتثقلني الحياة ذاتها. تجافيني الكتابة، وأشعر بالعجز أحيانًا، وتأتي الفكرة خجولةً أحيانًا، فأدلّلها بقسوةٍ وقلق. أما عندما تأتي ناضجةً، فستباغتني وقتما وكيفما تشاء. لا يكفي أن أكتب شيئًا مهمّاً، بل يجب أن يكون مختلفًا وممتعًا.

 أين نحن كمُثقفين ومجتمع نخبوي من حرية الكلمةِ والصورةِ ، حريةٌ لا تُعبِرُ بالضرورةِ عن فكرٍ مؤدلج لدى حكومته ؟

دور الكاتب، كما تقول الروائيّة الفرنسيّة (أن لا يقول ما بإمكاننا جميعًا قوله، بل ما لا يمكننا قوله). التعبير عن فكر مؤدلج، وعن رأي السّلطة والجماعة والقبيلة والحزب والتّنظيم لا يحتاج إلى مثقّفين. العاقل ـ  وليس المثقّف فقط ـ  هو من يحترم فرديّته، وعقله بالضّرورة.

من الناحية النظريّة، نحن قريبون من حريّة الكلمة والصّورة بقدر بعدنا عن محاكمة أنفسنا والسّماح للآخرين بالحكم علينا.

 المرأةُ ذاك الوهج الذي يُغيرُ مسارات بلادٍ وشعوب ، ذلك الوهج الحقيقي ، المحكُ تُدلِلُ الحرف وتترك لِخيالكِ أن يُعانقَ الأنثى الندى ونغمة الناي ، كيف لامرأةٍ من لحم ودم وندى أن تختصر الكون بأسره وتومض في حياة الكاتب باشراقة الحرف والكلمة ؟؟

المرأة سرٌ أزليٌ، طريقٌ شائك وشهيّ، هبوطًا من الجنّة وصعودًا إليها مرّةً أخرى. هذا سؤال لا أتمنى معرفة إجابته؛ البحث عن إجابة سؤال كهذا، في ذاته، محاولة لاستمرار الكتابة والحياة.

 نُدرِبُ عجزنا العربي على مُثابرةِ النصرِ وبِناء دولةٍ ديمقراطية تُحقِقُ العدالة ، كيف لِمخاضِ الألم العربي أن يُبشرنا بفجرِ ظلمٍ مائلٍ للزوال .؟

ما يحدث في الشّارع العربيّ اليوم مثيرٌ للشّجون. ما أشاهده على التّلفاز يبدو مألوفًا، ففلسطين حاضرةٌ في خلفيّة المشهد. يحزنني أن القاتل عربيّ هذه المرّة، ويحزنني أنّه لم يتعلم بعد أنّ الدّم في الشّارع هو وقود الثّورة. ليس منطقيًّا أن يساهم من يظلم شعبه في تحقيق عدل، أو تحرير أرض. زوال هؤلاء، والحدود بين الدّول العربيّة ـ الّتي تقهرنا أكثر من الاحتلال أحيانًا ـ يبشّر بأمل رغم الألم.

شاهد أيضاً

التومي على مذكرة تعاون مع وزارة اللامركزية الجيبوتي

الصباح وقع وزير الحكم المحلي بدر الدين التومي ، و وزير اللامركزية الجيبوتي قاسم هارون …