خلود الفلاح
ما هو الفيلم الوثائقي؟ وهل هو أداة للوعي والتغيير الاجتماعي؟ ولماذا يسمي البعض الفيلم الوثائقي “ذاكرة البلاد البصرية”، ولماذا أتجاه العديد من صناع السينما بعد فبراير 2011، إلى صناعة الفيلم الوثائقي؟
يرى المخرج ياسين الحطماني بأن للأفلام الوثائقية والسينما بشكل عام تأثيراً كبيراً خاصة في وقتنا الحاضر.
يتمثل دور الأفلام الوثائقية في توثيق الواقع بشكل حقيقي ومباشر، سواء كانت قضية معينة أو حدثاً مهماً أو قصة شخصية. لو تخيلنا أننا سنُنتج فيلمًا وثائقيًا عن ليبيا، فمن المؤكد أننا سنجد أكثر من مائة موضوع خلال العشر سنوات الأخيرة فقط. تستطيع الأفلام الوثائقية، وبشكل كبير، إثارة النقاش وتغيير مفاهيم مختلفة في ليبيا، خاصة فيما يتعلق بقضايا الشباب والهجرة والمواطنة، بالإضافة إلى قضايا صناعة السلام والحروب والحفاظ على الثقافة والتراث والهوية الليبية.
ويضيف: تُعد صناعة السينما بشكل عام ضعيفة جدًا، بسبب صعوبة الإنتاج وقلة الإمكانيات، بالإضافة إلى عدم وجود دور عرض للأعمال السينمائية. ومع ذلك، ظهرت مؤخرًا محاولات من قبل العديد من الشباب الليبيين وصناع الأفلام، مثل: محمد مصلي الذي قدم أفلامًا حقوقية مثل “حقوق تائهة” و”بطلة”، لمحمد مصلي، وفيلم “205” لفرج معيوف، وفيلم “دنقو” لمهند الأمين.
هذه الأفلام الوثائقية تتناول قصصا وقضايا ليبية حقيقية، وتهتم في أغلبها بتسليط الضوء على الإرث والتراث الليبي وكيفية الحفاظ عليه، خاصة في ظل غياب الاهتمام الرسمي بالجانب الثقافي والتراثي.
غياب المنح الانتاجية
وبحسب ياسين الحطماني يحتاج إنتاج الأفلام إلى إمكانيات كبيرة لخروج العمل بشكل سينمائي احترافي، خاصة فيما يتعلق بالكاميرات باهظة الثمن. كما تبرز تحديات أخرى مثل عدم وجود نصوص مكتوبة ومراجعات، وضعف الإنتاج، وغياب المنح الإنتاجية أو الصناديق الداعمة لصناع الأفلام في ليبيا، على عكس دول الجوار التي تمتلك مثل هذه الصناديق. بالإضافة إلى ذلك، لا تتوفر في البلاد دور عرض سينمائي أو أماكن مخصصة لعرض الأفلام.
وأضاف: “اصنع فيلما، حتى لو بشكل بسيط؛ فصناعة الفيلم تصنع تأثيراً وتغييراً، وتساعدك على التعلم أكثر. ليبيا، بقصصها وواقعها المتجدد كل يوم، هي باب مفتوح للأفلام الوثائقية”.
قوة الفكرة وصدق التجربة
هل الأفلام الوثائقية قادرة على إثارة نقاش عام وتغيير المفاهيم حول قضايا المجتمع الليبي، وكيف يستطيع صناع الأفلام الوثائقية الجدد انتاج ما يطمحون له من أفلام تقدم رؤاهم في ظل محدودية الموارد؟
وهنا يرد المخرج فرج معيوف: في ظل غياب دور العرض وصالات السينما، يبقى الفيلم الوثائقي وسيلة قوية للتعبير، حيث يمكن تداوله عبر وسائل بديلة مثل الإنترنت والقنوات المحلية.
يلامس هذا النوع من الأفلام القضايا الواقعية التي تهم المجتمع، مما يجعل الجمهور أكثر استعدادا للتفاعل معه. يستطيع الفيلم الوثائقي أن يخلق نقاشا مجتمعيا واسعا حول القضايا التي لم يتم التطرق إليها، وقد غيّرت العديد من الأعمال الفنية قوانين ومفاهيم مجتمعية في كثير من الدول.
واستطرد: على الصعيد المحلي، تعاني ليبيا من قلة الإنتاج الدرامي في مجال السينما. وفي ظل غياب دور العرض، أصبح الفيلم الوثائقي فرصة لعرض الأفكار، وتحقيق الانتشار من خلال المهرجانات الدولية والقليل من المهرجانات المحلية والملتقيات.
ويتابع: يتميز الفيلم الوثائقي بأنه لا يحتاج إلى مظاهر إنتاج ضخمة أو تقنيات باهظة، بل يعتمد بشكل أساسي على قوة الفكرة وصدق التجربة. ولدينا العديد من الأمثلة على ذلك، مثل فيلم “البطلة” للمخرج محمد المصلي، وفيلم “دونقا” للمخرج مهند الأمين، وفيل “سينما ولا شيء يسواها” للمخرج سعد العشة، بالإضافة إلى العديد من التجارب الجديرة بالاهتمام التي يطول سردها وعرض القضايا التي تطرحها.
صندوق دعم الأفلام
ويشير فرج معيوف، إلى أن غياب الدعم والإنتاج والقطاع التعليمي يجعل صناعة الأفلام أمراً صعباً وعسيراً دائمًا ما نتساءل: لماذا لدى جميع الدول صناديق وطنية لدعم الأفلام، مع وجود فرص متكافئة للجميع أثناء التقديم، بينما في ليبيا هذا الدعم معدوم وغير موجود؟ فالقطاع التعليمي يعاني من عدم وجود مناهج تعليمية متطورة، ومن أزمة حقيقية في المعاهد المتخصصة، حتى تلك التابعة للقطاع الخاص. أتمنى أن تكون هناك إرادة سياسية تؤمن بأن السينما أداة للتعبير والتغيير.
بيئة محلية
بدأ الاهتمام بالفيلم الوثائقي في ليبيا في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي مع تأسيس مؤسسة السينما التابعة لوزارة الإعلام والثقافة، التي أنجزت أفلام تسجيلية قصيرة عن الزيارات الرسمية في البلاد وتوثيق المناسبات الوطنية، وأفلام عن التاريخ البيئة المحلية.
ففي عام 1910 صور أول فيلم وثائقي داخل الأراضي الليبية بعنوان “سكان الصحراء الليبية”، وفي عام 1947، سجلت السينما الليبية أول حضور محلي في مجال الإنتاج الوثائقي، من خلال المخرج الليبي فؤاد الكعبازي، الذي أنجز شريطًا وثائقيًا عن زاوية الشيخ عبد السلام الأسمر بالتعاون مع المخرج الإيطالي إنريكو.
تنوّعت موضوعات الأفلام الوثائقية لصناع الأفلام الوثائقية الجدد بين التوثيق السياسي والاجتماعي والإنساني. مثل الاهتمام بقضايا العنف المنزلي، والنزوح والتهجير، وذاكرة الحرب، ومعاناة ذوي الاحتياجات الخاصة، ومسيرة حياة شخصيات ليبية لها تاريخ طويل في الإنجازات العلمية والفكرية.
رغم الصعوبات، يواصل الفيلم الوثائقي الليبي رحلته كفن رافض للتحديات، يعيد بناء التفاصيل الحياتية بلغة الصورة، من خلال جيل يواصل طريقه الصعب في غياب بنية تحتية سينمائية، يقدم أفلامه بوصفه شاهدا على ما يجري في المجتمع الليبي.
توثيق ذاكرة المكان
كيف يختار صناع الفيلم الوثائقي المضمون الذي يترجم إلى صورة وصوت؟ ومتى يستطيع الفيلم الوثائقي أن يؤثر في الوعي الاجتماعي والثقافي؟
يتحدث المخرج وسام الهمالي عن قدرة الفيلم الوثائقي على خلق نقاش حقيقي وإحداث تغيير في نظرة المجتمع الليبي تجاه قضاياه. فهو لا يكتفي بعرض الواقع فحسب، بل يقدمه بعمق إنساني يلامس المشاهد ويدعوه إلى التفكير.
وأضاف: في أعمالي مثل “أزقة الزمن” و”لؤلؤة الصحراء”، سعيتُ إلى تقديم الصورة الليبية الصادقة، وتوثيق الذاكرة والمكان بروح قريبة من الناس. نسعى دائمًا لأن تكون أفلامنا مساحة للحوار والتأمل، لأننا نؤمن أن التغيير يبدأ من الفكرة، والفيلم الوثائقي هو أقوى وسيلة لإيصالها.
التحدي والاصرار
يقول وسام الهمالي: من أكبر التحديات التي تواجه عملنا في هي قلة الإمكانيات وضعف الدعم المادي والفني فغالبا نعمل بجهود فردية وبأدوات بسيطة وهذا يفرض علينا مضاعفة الجهد في كل مرحلة من مراحل الإنتاج. ومع ذلك نحاول دائما تحويل هذا النقص إلى حافز للإبداع فنركّز على الفكرة وعلى جماليات الصورة وعلى روح المكان ونؤمن أن الصدق في الرؤية والإحساس بالمضمون من التفاصيل المهمة للنجاح.
نصنع أفلامنا بإصرار وشغف لأننا نؤمن أن الفيلم الوثائقي رسالة يجب أن تصل مهما كانت الصعوبات وأن الإبداع الحقيقي يولد من رحم التحدي.
غياب واهمال
ختامًا، رغم الوعي المتزايد بأهمية الفيلم الوثائقي، يواجه العاملون في هذا المجال صعوبات كبيرة ناتجة عن غياب البنية التحتية السينمائية المتكاملة. والتي تتمثل في غياب شركات الإنتاج، والمنح الإبداعية الداعمة، وندرة المهرجانات السينمائية المتخصصة. والمعاهد المتخصصة في تدريس فنون السينما والتمثيل.
كما يبرز تساؤل مهم حول مصير الأرشيف السينمائي الليبي، الذي يُقال إنه تعرض للإهمال والتلف؟
منصة الصباح الصباح، منصة إخبارية رقمية