بقلم / جمال الزائدي
تغيرت تسمية النخبة عبر العصور تبعاً لطبيعة الخطاب المهيمن في كل مرحلة ، لكن ظلّ دورها ، وظلت وظيفتها تقريبا واحدة .. قيادة مجتمعاتها وشعوبها وضبط خطواتها في الطريق نحو المستقبل الأفضل .. فكلما اشتد ثقل الظرف التاريخي على أمة من الأمم ، اتجهت الأنظار إلى نخبتها ، طلباً للتشخيص والتوصيف ووصفة العلاج.
حسب اعتقاد شائع في الأوساط العامة ، أن ماحصل ويحصل في ليبيا منذ سنوات أحد أسبابه الرئيسية غياب النخبة الفاعلة .. وهذا في المحصلة يعني ضعف إن لم نقل غياب العقل الجمعي ، وبالتالي انعدام القدرة على توظيف إمكانات الجماعة في سياقاتها الإيجابية المثمرة .. وبعيدا عن الاستغلال الدعائي لمسألة النخبة وغيابها ، واستعمالها في الصراع الأهلي المستعر منذ سنوات، لايمكن التسليم بالتفسير الساذج الذي يعيد أسباب الغياب لرغبة السلطة وممارساتها المناهضة لمأسسة الثقافة وتجذير حضورها الاجتماعي والسياسي.. هناك شروط بنيوية « اجتماعية / حضارية » بدون توفرها يستحيل ظهور النخبة في أي طور من أطوار المجتمع .. وإذا كان العلماء في الثقافة الإسلامية – وهم التجلي الطبيعي للطبقة المستنيرة – هم ورثة الأنبياء ، فإن النخبة بمعناها الاصطلاحي الحديث هم ورثة تجارب الأمة في الإنجاز والفشل عبر الأزمنة ، أي حراس خزانها العقلاني المحايث للتاريخ الموازي – دون أن يكون بالضرورة مفارقاً للأسطورة وللأوهام التي ينتجها المخيال الشعبي المحكوم بالحاجة إلى تعويض إخفاقات الواقع .. النظرة العامية السائدة تجاه من نسميهم بالنخبة هي ذاتها التي سادت قبل مئات السنين نحو الشاعر والعالم ، كونهما جزءاً مكملاً لديكور السلطة والبلاط.. ولعلّ النخبة ذاتها تبنت هذه النظرة في تقييمها لوظيفتها ، وبدل أن تتصدى للهيجان الذي اكتسح الشارع تماهت مع تطلعاته الغرائزية وتفاعلت مع تشظياته القبلية والأيديولوجية حتى تنازعتها الفضائيات والصحف وصفحات التواصل الاجتماعي لتتحول إلى رجع صدى لما تتقيؤه «الديماغوجيات» البائسة المغيبة للعقل والعقلانية .. سيكون من الصعب إسقاط مفهوم المثقف العضوي أو المثقف التقليدي كما صاغتها كتابات مفكري الغرب ، على واقعنا الليبي والشرقي بشكل عام ، وذلك بالنظر إلى تباين معطيات البنى الثقافية والاجتماعية والموقع الحضاري وغنى التجربة التاريخية ، والأهم من كل ذلك أسسها ومفاصلها الجوهرية.. نحن مبدئياً نحتاج إلى إيجاد تحديد واضح لمفهوم النخبة المثقفة ، وماذا نعني بالضبط بهذا المصطلح ، قبل أن نتساءل عن غياب النخبة وضآلة دورها .. فقد تكون الإشكالية في استعمال المصطلح المستورد في سياق محلي.. وقد تكون الإشكالية في الجمود التاريخي الذي تعيشه الثقافة التي ننتمي إليها.. لكن الوصول إلى التشخيص النهائي قد يستغرقنا أجيال وجهود عقول جبارة وقلوب شجاعة مستعدة للتضحية بأرواحها في مواجهة ركام هائل من المغالطات المقدسة بسلطة الوهم والأسطورة ، وعرضها على منهجيات الفكر والعقل المعاصر لفرز الغثّ والسمين فيها ومنها..