منصة الصباح

ولا عَزاءَ للغريب

جمعة بوكليب

زايد… ناقص

أينَ ذهبتْ النوارسُ؟

نهرُ الثيمز لا يُقلقني صمته، ولا أزعجُه بأسلئتي. والناسُ على ضفتيه، اكترث لعدم اكتراثهم بغياب النوارس. والأشجارُ، مصطفةعلى الجانبين، لا تُبدي اهتماماً ولا يثيرها أهتمامُ، وتلك طبيعتها التي عُرفت بها من قديم الزمن. وأنا ُأتفهّمُ ذلك بتسامحٍ لافت، ولا يؤرقني زعلُ. فلماذا أنا، من دونهم جميعاً، مهتمّ جداً، حدّ القلق، بغياب النوارس؟ وفي ذات الوقت، وتلك مفارقة، لا يفُوتني رصد ازدحام حركة المرور على جسر كنجستون، ولا زحمة الناس على ضفتي النهر، في ظهيرة يوم سبت ربيعي ومشمس. وكنتُ كالعادة، لا رفيق معي يعيرني انتباهه فأسرب إليه شيئاً من قلقي، ولا صديقة تتكيء برأسها على كتفي، وأُودعها همساً بعضاً من أسراري.

ذلك السبتُ الربيعيُ، كان العالمُ في كنجستون، على نهر الثيمز، في جنوب غرب لندن، يفتقد مثلي سُخريةَ صديقي منصور بوشناف، وتعليقاته اللاذعة. وحتى منصور لو كان حاضراً معي، لما كان لاحظ غياب النوارس، ولكان اشتط ّفي التعليق عما يحدث أمامه في الزحام من مفارقات. وأنا، بدلاً من الاستمتاع بدفء شمسٍ ربيعية، انشغلتُ بالبحث عن الأسباب التي أدّت إلى عدم حضور النوارس عُرسَ الربيعِ على النهر، وأخمّن في احتمالات وأماكن اختفائها، بل وأفكر في أشياء أخرى، مثل أن الصحو والدفء الربيعي يذكّرني بطرابلس، ويجعلني أتمنّى زيارتها، والتقي بمن أحبُّ من أصحابٍ وذكريات، ثم، فجأة، يخطر لي سؤال، لا مكان له من الإعراب، يتعلق بفريقي المفضل ليفربول، وهل يتمكن المدرب الهولندي الجديد من اكتساح البريميرلييغ والفوز بالدوري وبالكأس معاً؟ وكل ذلك يحدثُ ولا ينسيني غياب النوارس، بل يزيدُ في كثافة غيوم حيرتي وآلام وخز تساؤلاتي.

فأين اختفتْ تلك الطيورُ الجميلة واللعينة؟

ولماذا لا يكونُ برفقتي منصور بوشناف، لنترافق سيراً على ضفة النهر، حتى نتعب من الكلام ومن المشي، ونلجأ معاً إلى مقعد شاغر قبالة النهر لنجلس وندخن، ثم وبمكر متعمّد، أنعطفُ بالحديث فجأة، بسؤاله عن الأسباب التي جعلت النوارس تهجرُ النهرَ والضفتين وصحو سماء ربيعية دافئة؟ وأراقبُ عن كثب تأثير سؤالي على ملامح وجهه، ورد فعله. منصور الخبيث، كالعادة، ردوده دوماً جاهزة، وأتوقع أنّه سوف يردّ ردّاً يجعلني أضحك، ثم يسرقُ منّي دفّة الحديث، ويقوده نحو ضفاف أخرى.

ذلك السبتُ الربيعيُ،

الثيمزُ كان حاضراً.

متمهلاً كسولاً في خطوه كأنه ملك. يسير في مجراه بتؤده، مستمتعاً بدفء شمس ربيعية، جاءته زائرة بعد شتاء مبلل بالمطر والضجر وطويل.

أسرابُ البطّ والأوزِّ كانت حاضرة.

تسبحُ حرّة طليقة في ماء النهر، وفي فصاحة ودفء ضوء النهار.

وعلى الضفتين كان الشجر حاضراً بوفرة.

يكاد يضيء بهجة، باخضرار أوراق أغصانه ونعومة ظلاله، وزقزقة عصافيره. والناسُ، من كل فج عميق، حضروا.

جاءوا مثلي إلى النهر في كنجستون، يقودهم شوقُ إلى ملاقاة ربيع افتقدوه. وانشغلوا كعادتهم بأحاديثهم، غير مكترثين لغياب رفيف النوارس وصياحها، وهي تزاحم البطَّ والأوزَّ على فُتات الخبزِ التي يلقيها أطفالُ مبتهجون في النهر. فتخطفها وتطير محلقة عالياً، ثم تعاود الإغارة.

وأنا حضرتُ مرفوقاً بي.

أتوقُ في السرّ للطيران، قاطعاً المسافاتِ، أبتغي وردةً في بستانٍ بين سمائين:

واحدةٌ من حُمرةِ أقحوان

وأخرى من زُرقةِ خُزامى.

لكن

لا عَزاءَ للغريب في “كنجستون أبون ثيمز.”

فأينَ ذهبتْ النوارسُ؟

وما الذي يبقيني في هذي البلاد؟

شاهد أيضاً

ثلاثة في أسبوع واحد

أحلام محمد الكميشي   كنت أنوي الكتابة عن مصرفنا المركزي المترنح وحقولنا النفطية المغلقة وسياستنا …