منصة الصباح

عندما يرق قلبك لحال إنسان

عندما تقف مذهولاً أمام معاناة غيرك ثم تنكسر النفس مرددة مستغفرة غفرانك ربي وتشعر بصغر حجم ما شعرت أمام قوله العزيز «وبشر الصابرين»

نعم رق قلبي وثناترت دموعي خجلاً واستحياء أمام هذه المرأة وحاجتها للمال لأبنائها الذين كانوا برفقتها. طرقت باب مدرستي امرأة تملؤها الحشمة والأدب والخجل إمرأة رغم فقرها إلا أن عفتها كانت واضحة على ملامح صوتها وحزنها أجبرني  على قبولها بالعمل كمربية في المدرسة رغم عدم حاجتنا.. لهذا قررت أن تعمل معي وأن تكون المدرسة مصدر رزق لها ولتوزع البركة في قلعتي العلمية هذه والتي تعبت سنين في تأسيسها وأرسى قواعدها لتصل إلى ما وصلت إليه اليوم من نجاح.. وتم قبول أبنائها للدراسة مجاناً بدون رسوم إشتراك كمساعدة لها.. لم تجبرني هذه المرأة على احترامها وتقديرها بل فرضت نفسها باحترامها وتقديرها لي فكانت لا تتعب ولا تمل من العمل وكان الكل يحترمها ويقدرها ويقدم لها يد العون ولأبنائها فقد أبدت نشاطاً غير عادياً وتعاوناً وكأنها تشكرني بعملها الدؤوب والكل يحبها ويقدم لها يد العون من هدايا وزكاة وملابس وأضحية عيد وأدوات مدرسية ومبالغ مالية..

لعفتها تشعر بأنك تقدم لها هدايا لاهبة، ولصدقها وجمال شخصها القدر الكبير الذي يجعلك تقف محترماً ومقدراً لها واستمر الحال وزادت روابط المحبة والثقة بينها وبين كل الزملاء، زادت معدلات الثقة والتعاون والصدق في علاقتها مع الكل، وأثبتت وجودها.. لم يكن هناك شيئا في شخصها يدعوك إلى الريبة أو الشك وكانت سعيدة جدا،ً وكتت وزميلاتها المعلمات سعيدات جداً بسعادتها، وكان الكل سعيد بمساعدتها لها ولأبنائها والحمد لله.

استمر الحال إلى ذلك اليوم الذي جاءتني فيه تطلب الإذن بأن تبقى بعد الدوام الدراسي لأن سيارة زوجها لها من الأعطال ما يجعلها تنتظر كثيراً ويتأخر عنها فتظل وأبنائها أمام سور المدرسة فأضطررت إلى البقاء معها والانتظار بعد نهاية الدوام المدرسي ولم يكن الموضوع يشكل أي مشكلة أو ضرر، وفي يوم من الأيام اضطررت إلى الرجوع باكراً لظرف طارئ فتركت لها المفتاح وانصرفت وطلبت منها إغلاق الباب والحضور اليوم التالي مبكراً.. نعم تركت لها المفتاح وهنا ربما كنت ساذجة أو مغفلة ولكنني واثقة منها فهي الإنسانة العفيفة الصادقة التي لاتعرف غضب أو كذب ولم يخطر ببالي أية فكرة أنها خائنة للأمانة،، الخيانة هذا المصطلح الذي تشمئز منه النفوس الراقية الطيبة النقية التي تسمو فوق كل  دنيء.

الخيانة هذا الخلق الذميم والرذيلة التي تنفر منها النفوس وأصحاب الضمائر اليقظة.

ففي يوم من الأيام وكنت أمر من أمام منزلها الذي تكفلت بدفع أقساطه مرات عدة متفقدة لأحوالها ولأقوم بتوصيل أمانة لها من أصحاب الخير والصدقات فإذا بي أجد أحد ابنائها يجلس على كرسي أعرفه جيداً هو من كراسي المدرسة ويلهو بألعاب هي نعم من مخصصات المسرح «أعرفها جيداً»!! يا إلهي لايمكن أن أتخيل هذه الإنسانة العفيفة الصادقة الطيبة.. لا.. لايمكن وطردت كل الأفكار التي راودتني، لم أستطع النزول أو التوقف بسيارتي وكأن عقلي يرفض أن يصدق ما أبصرت عيناي ولا أريد أن أكون مخدوعة من هذه الإنسانة الطيبة.. لايمكن أن تكون قد خانت الأمانة وسرقت !! أبداً ولما تسرقني وقد وفرت لها كل ما تحتاجه، لما سرقتني في أشياء بخسة الثمن وقد قدمت لها كل متطلباتها ومتطلبات أبنائها !! وماذا تسرق؟.. لا .. لا يمكن!

رجعت وعقلي يرفض كل تصور، وجاء اليوم التالي.. قدماي شُلت على الحركة لم أستطع أن أتفقد أشيائي!!.. كأنني أوقف الزمن وأتأخر عن لحظة الحقيقة وهي «أنني خذلت».. حيتني ذلك الصباح وهي مبتسمة كعادتها، وتألمت.. لماذا لم يؤلمن ما سرقت.. تألمت من خيانتها للإنسان بداخلها.. كلنا نحبها ونحترمها ونقدرها، لماذا تشوه كل جميل في الإنسانية؟.. علاقتنا كانت جميلة.. مرارة العلقم في حلقي!! كانت أمينة السر بالمدرسة تلومني على طيبتي وسذاجتي بعد التأكد من المفقودات..

«احذر اللئيم إذا أكرمته» نعم.. ولكنها لم تكن لئيمة، كانت إنسانة بكل معنى الكلمة يا إلهي إلى هذه الدرجة كانت ممثلة بارعة… خائنة للود والعهد ..لماذا..؟.

ثقتي بها تجاوزت كل الحدود وقد يكون ذلك سذاجة مني، فقد كانت في عيني شيئا لا يمكن أن يخذل أو يخون. خيانة الأمانة جريمة من أقوى الجرائم على الذات لأنها تمزق الود وتلغى الوعد والعهد فالخيانة من علامات النفاق كما أخبرنا الرسول عليه الصلاة والسلام في حديثه الشريقف «آية المنافق ثلاث.. إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان» فقد تألمت على فقدانها كإنسان!! وقد حثنا الدين الإسلامي على حفظ الأمانة والصدق ونهى عن الخيانة قال الله تعالى في سورة الأنفال «يا أيها الذين أمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أمانتكم وأنتم تعلمون».. فعندما تتصرف في شئ دون علم صاحبه يعد خيانة، وكل إنسان لا يؤدي ما يجب عليه من أمانة فهو خائن، فهذه الإنسانة التي خانتني وطعنت صدقي ومحبتي واحترامي لها آلمتني كثيراً فقد اقتربت منها كإنسان وليس كرب عمل..اقتربت منها بكل تواضع.. بصفة محمودة تدل على طهارة النفس وتدعو إلى المحبة والمودة والمساواة، تمحو الحسد والبغض والكراهية من قلوب الناس وهي سبيل لبقاء النعم قال كعب رضي الله عنه ما أنعم الله على عبد من نعمة في الدنيا فشكرها لله وتواضع بها لله إلا أعطاه الله نفعها في الدنيا ورفع بها بدرجة في الآخرة..

فعندما يلتزم الناس بالأمانة يتحقق لهم الخير ويعمهم الحب وفيها فوز في الآخرة .

رحلت وقد تركت في داخلي جرحاً لايلتئم بسهولة لأنني فقدت فيها كل الإنسانية التي تسمو بالصدق والأمانة والعطاء والعفة.. فقدت فيها الإنسان الذي نسعد بوجوده لأنه يمثل الخير..

لم يؤلمني ما سرقت!!! ولكني تألمت لأنها سرقت…!!! لأنها كذبت «لأنها خانت».

نجاة أحمد الضعيف

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …