منصة الصباح

على نفسها جَنَتْ براقش

جمعة بوكليب
زايد ..ناقص

على نفسها جَنَتْ براقش
” غريب الدار عليّا جار
زماني قاسي وظلمني
مشيت سواح مسا وصباح
أدور عاللي راح منّي.”
المسافةُ الزمنيةُ التي تفصل بين أول وآخر مرّة استمعت فيها إلى ألأغنية أعلاه تكاد تصل إلى نصف قرن. الأغنية من أداء مطرب اسمه “عبده السروجي.”
في عام 1976 كنتُ مدعوّاً في بيت صديق بطرابلس لوجبة عشاء، صحبة أصدقاء آخرين. خلال السهرة، التي أعقبت الوجبة، طلب المضيف من أحد الحاضرين أن يغنّي الأغنية. كنتُ أعرفه من بعيد، ولم يجمعنا لقاءٌ قبلها. كانت بدانته لافتة للانتباه، ولشدة استغرابي، امتلك صوتاً شجياً لافتاً أيضاً. لم أنتبه لكلمات الأغنية آنذاك، بقدر ما انتبهت إلى ألدموع، التي كانت تنساب غزيرة على خدّيه وهو يغنّي.
المرّةُ الثانية، كانت في شقّة صديق ليبي، بمدينة القاهرة، لدى حضورنا دورة معرض القاهرة الدولي للكتاب الخامسة والخمسين، شتاء 2024. إذ بينما كنّا ندردش قام أحد الحاضرين فجأة، ببث الأغنية عبر جهازه الخليوي. فتذكرت ذلك الموقف البعيد زمنياً، وأنبثق في ذاكرتي ذلك الشاب البدين، وهو يغني ويذرف الدمع.
باستثناء عجز البيت الثاني القائل:” أدور عاللي راح منّي،” لم أسجل اهتماماً في نفسي لبقية كلمات الأغنية.
وهذا يذكّرني بعلاقتي بأغنية ليبية، اشتهرت في السبعينيات من القرن الماضي، تقول كلماتها ” زعمْ لينا في الزين نصيب/ ناره تعذيب/ نطفّوها وتزيد لهيب.” وجه التشابه، أن علاقتي بالأغنية تلك توقفت عند الجملة /السؤال:” زعم لينا في الزين نصيب؟”
ما شدّني، في تلك الليلة القاهرية، هو أنني أنتبهت، للمرّة الأولى، لكل كلمات الأغنية، وفهمت قصّتها. فيما بعد، أعدتُ سماعها لوحدي. ثم أعدتُ سماعها في اليوم التالي. كان سؤالي: ما الذي أضاعه ياتُرى ذلك الشاب البدين، وجعله يسفحُ الدموع أمامنا؟ وماذا أضعتُ أنا؟
سؤالٌ كما فرض نفسه عليَّ، أزعم أنّه يفرض نفسه على آخرين كثيرين من الجنسين. وأكاد أُجزم أنّه ليس بيننا من لم يضع شيئاً ما، عزيزاً عليه، في زحمة الدنيا، وظلَّ يتذكره متحسّراً. وفي رأيي، فإن كفة الحبّ ترجح أكثر من غيرها. وعلى سبيل المثال لا الحصر، من منّا لم يضع، ذات يوم، حُبّاً ملأ وجدانه، وخسر بذلك سعادته إلى الأبد؟ ومن منّا لم يعرف مذاق مرارة الحسرة التي تنتابه، من حين إلى حين، خاصة حين يرى نفسه يعيش مختنقاً في علاقة زوجية مع شخص آخر، لسنوات طويلة، ولم تكن يوماً في حساباته، لكنّه تورّط فيها نتيجة خطأ في حساباته ارتكبه سَهواً، أو بحماقة؟
نحن أميلُ إلى تعليق أخطائنا على مشاجب عديدة، بنيّة حماية أنفسنا من اللوم، وتجنّب العيش في نيران جحيم الندم. إلا أن الندمَ لا، ولن يفارقنا. يظلُّ يسير معنا أينما حللنا، ونحاول تجاهله. وهذا يعني أننا، في قرارة أنفسنا، نعلم علم اليقين أن مسؤولية ذلك الخسران/ الضياع، تقع على عاتقنا أولاً وأخيراً.
وأن يضيع منك في زحمة الحياة وتقلباتها حُلمك/ حُبّك، يعني أن تعيش في نار الندم والحسرة. وأنا، في هذه السطور، أعترف أنني، مثل كثيرين، ساهمت في قلب حياتي رأساً على عقب سلبياً، حين منحتُ ثقتي لمن لا يستحق. وأعترف بمسؤوليتي عن ذلك، وبالطبع عليَّ تحمّل النتائج، وفعلتُ ذلك على مضض وكُره، ومن دون حاجة إلى ذرف دموع، كما فعل ذلك الشاب البدين والمسكين، منذ أكثر من نصف قرن مضى. وعلى نفسها جنتْ براقش.

شاهد أيضاً

نَحْنُ شُطَّارٌ فِي اخْتِلَاقِ الأعْذَارِ

باختصار د.علي عاشور قبل أيام قليلة نجحنا نحن الليبيون في ما يزيد عن خمسين بلدية …