محمد الهادي الجزيري
” من أجندة الملك الضلّيل ” وبها وفيها وعلى أجنحتها التاريخية والمسقطة على الواقع المعاش .. يهبّ المبدع الكبير عبد الرزاق الربيعي على جراحات كثيرة ..من ضمنها ضياع الفرد والجماعة والأرض والوطن ..، فنجد أنفسنا نقتفي امريء القيس في سيرته الطافحة بكلّ بطولة وتمرّد وثأر وصعلكة ( لا أعني صعلكة هذه الأيام ) ..المؤدية بنا إلى الإنساني فينا ..، وقد زاده الربيعي من نفسه شعرية وروعة ..، ها هو يسأل ( الضلّيل ) عن حاجته ..وما يريده من الزمن ..، ويجيبه بألم وصرامة ووضوح :
“..فيا (ضلّيل)
ماذا ترتجي ؟
والأرض
كلّ الأرض
في أحداق هذا الطفل
ما عادت لتكفيه وطنْ
ما الذي ترجو
إذنْ
علّ ما يهفو له الرأس
ستلقاه
بأذيال الزمنْ ”
أريد أن أتوغّل في المجموعة ..فتشدّني من نصّها الثاني ..” لعبة ” حيث يطرح علينا الشاعر لعبتنا الأبدية ( ملك/ كتابة ) ويخيّرنا بين الأمرين ..فيحتار كلّ منّا فيما يختاره ، فإن اختار الملك ..يضع على رأسه تاجا ..وبه يحكم غابة ، وإن اختار الكتابة ..فسيعيش مثل الشاعر ..غريبا في البرية ..ولكن حرّ وحرّ وحرّ ..، ويبدو هذا ما اختاره المبدع الكبير عبد الرزاق الربيعي ..وترك العالم في غيبوبته وسباته وغفلته ..، لقد عاش شاعرا ويموت حين يجيء الأجل شاعرا ..دون أن يغريه الملك وهمومه الكثيرة :
” لكنّك حين يغطّ العالم
في غيبوبته
ستحلّق
فوق جناح سحابةْ ”
يظلّ الشاعر مهموما بأسئلة الحياة والموت ..، يكتب ما يراه وما يعاينه ..ويخرج من نصّ إلى نصّ بإيقاع آخر مختلف ومغاير ..، قرأت له في مجموعة ” ضِحْكٌ على الأطلال ” قصائد مثل ( حوت ) ويتعرّض فيها للزمن ولعبته القديمة الجديدة مع الطفل فالشاب إلى نهاية اللعبة واكتشاف كلّ شيء بعين الكهل : العالم صار يباب ..، وقرأت قصائد صريحة ودامغة مثل ( مصيدة ) التي يتطرّق فيها إلى هادم اللذات ومفرّق الجماعات ألا هو الموت ويحدّث في هذه القصيدة كائن صغير يواجه قدره ، ويرمز للإنسان بالفأر ..فكلّ نفس ذائقة الموت ولا دائم إلا الله ، من الصعب أن تركض خلف شاعر وهو يخطو خطوات عملاقة فوق المعنى والمجاز والتلميح والإيجاز ..، وممّا اقتطفته من قصيدة بعنوان ” قلب وسهم ودم ” مهداة إلى زوجته وحبيبته ورفيقته جمانة المصون..تغمّد الله هذا الحبّ وأسبغ عليهما ستره وأطال إلى الأبد عشرتهما :
” عند خطوط استواء الغيب
وفوق تلال دوائر الطول
والعرض
ووسط أدعية المصلين
وتراتيل القديسين
وصلاة الطير
أحبّك ”
صراحة لم أستطع أن أمرّ إلى قصيدة أخرى لأقطف منها ما يروق لكم ..، فقد أفحمتني شعرية هذا الصدق في هذه القصيدة وأقصد ” قلب وسهم ودم ” وأدعوكم لقراءتها كاملة لتعاينوا جوارح هذا الشاعر المقتول بالحبّ …، ثمّ هو من الشعراء العرب القليلين الذين كتبوا بكلّ تلقائية وانسيابية عن زوجاتهم ..، خاصة أنّ الشاعر العربي لا يعترف بحبّ رفيقته في الحياة إلا بعد الوفاة ..، وهذا ما يجب أن يزول إلى الأبد ..، فالحبّ هو كلّ شيء رهيف وسامٍ ومقدّس ..، اسمعوا عبد الرزاق الربيعي وهو يشدو :
” قلب واحد
ووحيد
يقف عاجزا
عن حبّك
وسيهوي
من أعلى ورقة
في شجرتك
إلى أسفل قلمي
ليقاسمني السهر
والحمّى
ومباهج الهاوية ”
ماذا أقول بعدك يا الشاعر ..لقد أفحمت الأبجدية ..، أصرّ فقط على دعوة القراء إلى قراءة المجموعة كاملة وعدم الاكتفاء بالقليل القليل الذي انتقيته ..، ربّما أضيف شيء هو يدخل في باب الغبطة ..وقد كتبته على زوجتي الفاضلة ..، اترككم مع هذا المقطع من قصيدتي المعنونة ( لكِ ) :
” لكِ ما ليس لغيــركِ :
عنوانُ الصعلوك وظلّ المصلوبْ
لك إسراء الأعمى من حانته
وحفيف جناحيْ الطائر حين يؤوبْ
لك إغفاء المجنون على ذات العتبةْ
وسجود الآبق للمحبوبْ
لك وجه الشاعر في دمعته
وبقايا العمر المنهوبْ “