جمعة بوكليب
زايد…ناقص
هُرَاءُ فرانكفورت
في الأسبوع الماضي، تناقلت وسائل الاعلام البريطانية خبر وفاة الفيلسوف الأمريكي هاري فرانكفورت، عن عمر ناهز تسعين عاماً. السيد فرانكفورت كان فيلسوفاً أكاديمياً مغموراً، يخوض في قضايا فلسفية لا تلفت انتباه الرجل العادي، لكن الهُراءَ، نعم الهُراء، جعل منه نجماً مشهوراً وثرياً في آن معاً.
العلاقة بالفلسفة، في رأيي، مثل العلاقة بمادة الرياضيات. إما أن تفهمها وتحبها، وإما أن يستغلق عليك فهمها وتمقتها. ذلك يتوقف على أمور كثيرة، يأتي في مقدمتها المعلمون الذي صدف وأن قرأتَ عليهم المادة في المراحل الأولى من حياتك الدراسية. هناك معلمون يجعلونك تقع في عشق المادة من أول حصة. وهناك آخرون يبنون جداراً اسمنتياً صلداً بينك وبينها إلى نهاية العمر.
أنا من النوع الثاني من البشر المذكورين أعلاه. فلا نصيب لي في حبّ مادة الرياضيات، ولا حبَّ نلته في علاقتي مع مادة الفلسفة. وكنتُ دوماً على علم بذلك النقص. ودوماً، ألقي باللوم على من ساقهم القدر لتدريسي المادتين. لكني، في سنواتي الأخيرة، وبعد محاولات، بدأت تدريجياً في الاقتراب من قراءة قضايا ومواضيع فلسفية بنيّة الفهم والاستيعاب، على أمل تعويض ما فاتني. بعضها كان مستغلقاً مثل معادلات جبرية موغلة في التعقيد. وبعضها الآخر فتح الباب أمامي لأدخل البيت بترحاب، واستمتع بما في داخله من أناس وأثاث وأزياء وتحف. الفرق بين الاثنين أن الاستغلاق لم يكن ناجماً عن قصور ذهني لديَّ، بل نتيجة غياب الوضوح في لغة مؤلفيها. والعكس صحيح فيما يتعلق بالأخرى.
في السنوات القليلة الماضية، قرأت كتاباً فلسفياً صغير الحجم، لا يزيد عدد صفحاته عن 80 صفحة من القطع الصغير. كتبه فيلسوف أمريكي اسمه هاري فرانكفورت. وعنوان الكتاب باللغة الانجليزية :”Bullshit.” والترجمة القاموسية باللغة العربية للكلمة في قاموس “غوغل” هي ” هُرَاء.” وتفسر المعاجم العربية الكلمة هُراء، بأنها هذيان، كلام فاسد كثير،غير خاضع لمنطق.
الكتاب صدر عام 2005، وكان من أكثر الكتب مبيعاً. فقررت شراءه. هناك عامل آخر وراء حرصي على اقتنائه وهو العنوان. كان السؤال في ذهني، وقتذاك، كيف لفيلسوف يحترم نفسه وعلمه أن يكتب وينشر كتاباً عن الهُراء؟
في كتابه، يؤكد الفيلسوف فرانكفورت على ازدرائه للهُراء. ويصفه بأنه “من أكثر الظواهر بروزاً في ثقافتنا.” وأننا جميعاً نعرف ذلك، بل ونساهم فيه. وهو يفرّق بين الهُراء والكذب. ويرى الهُراء نوعاً مختلفاً من الكذب. فالكاذب يعرف الحقيقة ويحترمها، لكنه يكذب لاخفائها عن غيره، بهدف خداعهم. أما الهُراء فإن صاحبه لا يبدي مبالاة أو اهتماماً بالحقيقة. ولهذا السبب أعتبر الكاتب أن الهُراء أكبر عدو للحقيقة من الكذب. فصاحبه قد يكذب، وقد يقول الحقيقة، لكنه لا يهتم بذلك اطلاقاً. وما يهمّ لديه هو ما يرويه. وقد تكون الرواية جميلة وماتعة، لكن لا علاقة لما يقوله بالحقيقة، وهولا يلقي بالاً لها. وهو يُعَرّضُ بالسياسيين ويراهم أخطر أعداء الحقيقة.
والحقيقة التي لا يمكن نسيانها في هذا السياق، هي أن السيد فرانكفورت نجح في تحويل الهُراء(Bullshit) إلى منجم ذهب، جلب له شهرة عالمية، وراكم في حسابه المصرفي أموالاً ضخمة، وجعل اسمه، بين يوم وليلة، معروفاً للملايين من البشر في مختلف قارات العالم.
وطالما كان الهراء موضوع هذه السطور، فأولى بنا التطرق إلى الهُراء الذي نتجرعه، عبر وسائل الاعلام الليبية، ويصلنا على جرعات يومية متتالية، من سياسيين ومعلقين ومشائخ وقادة جماعات مسلحة، الأمر الذي يمنحنا الحق في أن نطلق على السنوات العشر الماضية اسم عقد الهُراء.