منصة الصباح

نحن والتكنولوجيا

نحن والتكنولوجيا

جمعة بوكليب

زايد..ناقص

قبل ظهور جهاز” GPS” للمواصلات، كنتُ دوماً عرضة للتوهان في الطرقات والشوارع، وأنا أقود سيارتي. المشكلة ليس في الطرقات، أو في السيارة، بل في عدم قدرتي على معرفة الاتجاهات، وفشلي الذريع في قراءة الخرائط. الأمر الذي كان يسبب لي الارتباك والتوتر.
ظهورُ الجهاز الذكي المسمى” GPS”، رحمني من ذلك العذاب المتواصل. وصار بمقدوري، أنا وملايين غيري، الجلوس خلف مقود القيادة، تاركين للجهاز الالكتروني مهمة فكّ طلاسم الطرق والجهات.
في بريطانيا، قبل ظهور الجهاز المذكور، كان السائقون يعتمدون على الخرائط في معرفة الشوارع والطرق. ويعتمدون أيضاً على سائقي سيارات الأجرة. بمعنى أنهم يستقلون سيارات أجرة تنقلهم إلى وجهاتهم المطلوبة، أو يوقفون سائق سيارة أجرة ويطلبون منه توصيلهم إلى العنوان المطلوب، ويتبعونه من الخلف في سياراتهم الخاصة، ويدفعون أجرته كاملة.
سائقو سيارات الأجرة في لندن، ينتظرون قرابة ثلاث سنوات حتى يتحصلوا على ترخيص رسمي يؤهلهم لقيادة سيارة أجرة في العاصمة. وبالتأكيد، فإن الأمر يطال غيرهم من سائقي الأجرة في المدن الأخرى، لكن ربما أقل زمنياً.
وقرأت أنه منذ عام 1865، كان على كل من يسعى إلى العمل سائق في سيارة أجرة في لندن اجتياز امتحان، تحريري وشفوي، يطلقون عليه امتحان المعرفة. (Knowledge Test) ويقصدون بالمعرفة الاحاطة الشاملة بطرق وشوارع مدينة لندن. وحفظ أماكن وعناوين معالمها التاريخية، ومطاعمها وحاناتها وفنادقها ومحطات قطاراتها، وكل ما يتعلق بها. وهذا يستغرق زمناً طويلاً، لأن المتقدمين للامتحان يمتحنون على فترات زمنية، تستغرق قرابة ثلاثة أعوام.
تلك المعرفة المفصّلة للمدينة، ميّزت سائقي سيارات الأجرة في لندن عن نظرائهم في عواصم العالم الأخرى. لكن الأمور تغيّرت في السنوات الأخيرة. التغيّر لم يطل امتحان المعرفة. إذ مازال شرطاً واجباً على كل من يريد الحصول على ترخيص بقيادة سيارة أجرة. وما أقصده أن سائقي سيارات الأجرة صاروا مثلي. فما أن يستقل المرء سيارة أجرة ويبلغ السائق بجهته المقصودة، يقوم السائق بتسجيل العنوان في الجهاز، ثم ينطلق به أو بها، معتمداً على خرائطه في الوصول إلى الهدف، ومن أقصر الطرق.
ونظرا لانتشار هذه الظاهرة، فإن عديدين من كتاب صفحات الراي في الصحف البريطانية طالبوا الجهات الرسمية بالاستغناء عن امتحان المعرفة السابق ذكره، طالما أن الحاجة إليه انتفت، ومكانه حلَّ جهاز الكتروني ذكي، يقوم بالغرض على افضل ما يرام. إذ ما الحاجة إلى قضاء فترة ثلاث سنوات، في تعلّم وحفظ أسماء المناطق والشوارع والطرق وغيرها، مادام بالإمكان استخدام جهاز ذكي، دقيق ومفصّل، وسهل وموثوق، وفي متناول الجميع؟
المطالب منطقية جداً. فالضرورة أوجدت امتحان المعرفة للتأكد من قدرة السائقين على خدمة المواطنين. وانتفاء تلك الضرورة يعني بالضرورة تعديل القانون بما يتماشى والواقع الالكتروني، الذي فرض حضوره، ليس على قيادة السيارات في الطرق فقط، بل على أشياء حياتية كثيرة. إلا أن المسألة بالنسية إلى آخرين لا يمكن النظر إليها، والتعامل معها من هذه الزاوية فقط.
المعارضون لمطلب الالغاء، يرون أنّه من الغباء تسليم أمور حياتنا إلى سيطرة أجهزة الكترونية. ويطالبون بعدم الغاء امتحان المعرفة. وحجّتهم، أننا نخسر أكثر بالسماح للوغاريتمات أن تنزع منّا هذه المهارات الحياتية الضرورية. بل وينصحون بالعودة إلى استخدام خرائط الطرقات الورقية. و يؤكدون أنك بفعلك ذلك تزداد معرفة والتصاقاً بمحيطك البيئي، وتزداد علماً بالطرق. ويقولون إن معرفة إلى أين نحن سائرون، سواء على الطرقات أو في قطاعات الحياة، يجب إلا نفرط فيها بسهولة.

شاهد أيضاً

الـولاء للـــوطن

مفتاح قناو لا يمكن للمواطن الليبي العاشق لتراب هذا الوطن أن يكون شيئا أخرا غير …