منصة الصباح

مهارة البهلوان وحسرتي

زايد…ناقص
بقلم /جمعة بوكليب

منذ الصغر، كنتُ ماخوذاً بالبهلوانات، ولازلتُ، حتى يوم الناس هذا، مفتوناً بسحر وجاذبية مهاراتهم المتعددة، وقدراتهم على الإدهاش، خاصة حين أراهم في الشوارع والميادين يستعرضونها متباهين مفتخرين، بوجوه ذات ملامح مسترخية، وبثقة تغبطهم عليها الملائكة، ويحسدهم عليها السلاطين أو الشياطين لا فرق.
وكنتُ، دوماً، أجد نفسي مأخوذاً إليهم، وهم يلعبون بعدّة كرات في وقت واحد، يلقون بها عالياً في الفضاء بيد ويتلقونها بأخرى، في توالٍ مدهش، من دون أن تسقط منها واحدة، وفي توازن وتناغم جميلين ومتسقين كموسيقى عذبة، وساحرة. فادعو الله سرّاً، مبتهلاً ان يمنحني بعضاً من تلك المهارات لأكون ماهراً مثلهم. وأذكر أنني حين شاهدت بهلواناً محترفاً، لأول مرّة، في عرض لسيرك جاء من بلاد بعيدة لتقديم عروضه في طرابلس، انبهرت، واعترتني دهشة عجيبة، وتمنيّت ألا ينتهي ذلك العرض. وحرصت في اليوم التالي على العودة لمشاهدته. وأذكر، كذلك، أنني في الأيام التالية تلبستني رغبة تقليده، فصرتُ أقضي أوقاتاً طويلة مع نفسي، أقذف بحبة برتقال في الهواء، وقبل أن تسقط في يدي من جديد، أقذف بأخرى. ورغم نجاحي في الإمساك بالأولى لدى سقوطها، كان مصير الثانية السقوط على الأرض. وكانت كلما سقطت أحسّ وكأن قلبي سقط مني وليس حبة البرتقال. بعد أيام كثيرة، ومحاولات بلا عدد تخلّيت عن الفكرة، ولم أعد إليها مطلقاً. لكني لا أنكر أنني، منذ ذلك الوقت وحتى وقتنا الحالي، لازلتُ احسّ بنبضات قلبي تتسارع من شدة الإثارة كلما صادفت، في ميدان من الميادين، بهلواناً يستعرض مهاراته. وأعترف، أيضاً، أنني لم أعد أبتهل إلى الله سراً كي يمنحني بعضاً من تلك المهارات لعلمي، أخيراً، أنه ليس بالامكان تعليم كلب هرم أي حيل جديدة، كما يؤكد على ذلك مثل انجليزي.
وكما هو متوقع، فإن ذلك الانسياق وراء الرغبة في تعلم مهارات البهلوان وغيرها من الأشياء الأخرى تعد سمة، من ضمن سمات أخرى عديدة، تميّز مرحلتي الصبا والمراهقة، ثم بتوالي الأيام تتلاشى تلك الأوهام والأحلام البريئة، مفسحة المجال لأوهام وأحلام اخرى مختلفة، وقد تكون متهورة، وتتسم بشيء من خطورة، نظراً لاقترانها بمرحلة عمرية يتعرض فيها الجسم لتغيرات عديدة، ويكون أرضا خصبة لبذور هرمونات من أنواع كثيرة ومختلفة، تقلبه راساً على عقب، بدنياً ونفسياً وجنسياً.
الآن، وأنا أستعد، بتردد واضح، لمغادرة العقد السابع، والدخول لمعترك العقد الثامن من عمري، بدأت أشعر بشيء من ندم على كسلي وضعف تصميمي وقلة عزمي على عدم تعلم مهارات البهلوان في اللعب بعدّة كرات في وقت واحد، لأني لو كنت تعلمتها صغيراً لكانت أفادتني وأنا أدخل متعثراً وخائفاً غياهب وصحارى الشيخوخة، وما تلقيه على كتفيّ المتعبتين من ثقل أحمال لا طاقة لقدمين ولركبتين كهلتين على حملها.
أحياناً، أحسّ أنني في هذه الفترة العمرية في أمسّ الحاجة لتلك المهارات كي أتمكن ليس من اللعب بالقاء الكرات في الهواء بيد وتلقيها بأخرى، بل باللعب بما يعترضني من مشاكل وهموم وأحزان عديدة، بقدف بعضها في الهواء لتخفيف ثقل حملها، بينما في نفس الوقت أتعامل مع غيرها، ومتى أنتهيت منها أقذفها في الهواء، وأتعامل مع الاخرى التي سقطت بين يدي، وهكذا.
لذلك ارتأيت، مؤخراً، أنه لا فائدة من ندم على خطأ لا يمكن اصلاحه، ولاطائل من ورائه سوى مفاقمة مشاعر الاحساس بالذنب. وأخترت الكفَّ عن لوم نفسي، والالتفات إلى مواجهة أمور أخرى أهم وأخطر، ليس أقلها الحماية من الإصابة بسهام فيروس كورونا.

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …