منصة الصباح

مدنٌ وايقاعات

زايد… ناقص

جمعة بوكليب

 

تفادًياً  للاحراج  تعلّمتُ، من خلال تجاربي، كلما نزلتُ ضيفاً، أن أكون حريصاً، على ملاحظة كيف يتحرك مضيفي داخل مساحته الخاصة، وفعل ما يفعل. من الممكن القولُ، بشيء من التبسيط غير المُخلّ، آخذين الفارق في الاعتبار،  إن المدنَ مثلُ البيوت الخاصة. و كما أن لكل بيت نظامه الداخلي وتميّزه، فإن الشيء نفسه ينطبق على المدن. فكل مدينة ايقاعٌ خاصٌ بها يناسبها ويميّزها عن غيرها. والذين لا يتعرفون على ذلك الإيقاع، يقعون بسرعة في فخ النشاز.

تجربتي في العيش، لسنوات طويلة، في مدينة كوزموبوليتية مثل لندن، ساهمتْ كثيراً في توسيع مداركي، وجعلتني  كثير الحرص كلما زرتُ مدينةً أخرى، في الابتعاد ما أمكن عن الوقوع في المطبّات. ولدى وصولي إلى مدينة لم أزرها من قبل، تتسم حركتي ببطء متعمّد، لتتاح لي فرصة التقاط الإيقاع العام للمدينة تدريجياً، من خلال رصد كيف يتحرك سكانها، ونوع إيقاعهم: سريع أم بطيء. العادة، أن الإيقاع في المدن الكبيرة يتسمُ بالسرعة، والعكس في المدن الصغيرة.  هذا يعني كذلك مراقبتهم كيف يتصرفون في المطاعم والمقاهي، وفي محطات الحافلات والقطارات، وطريقتهم في الكلام: هل، مثلاً، يتكلمون بصوت عالٍ، أم ينحون للهمس في أحاديثهم؟ هل ينظرون في وجوه بعضهم أم يتجنّبون النظر؟…الخ.

أولُ شيء تتعلمه في لندن هو أن تكون مواطناً لندنياً. اللندنيون يتجنّبون النظر إلى وجوه بعضهم. وإذا حدث ذلك، سرعان ما يحيدون بنظراتهم بعيداً. وحين تكون في قطار الأنفاق في ساعة الذروة، فإنك تحاول قدر المستطاع ألا تنظر في وجوه من حولك، حتى وأنت تراهم وهم يرونك. وحين ترى أحدهم يخالف تلك القاعدة تعرف وقتياً أنّه ليس لندنياً. الشيءُ نفسه يقال في طوابير الأسواق، والحافلات، والقطارات. طريقة وقوفك في السلم الكهربائي في سوق تجاري، أو محطة قطارات وأين تقف؟ يتعلم المرء ذلك، بمرور الوقت، ومن خلال رصده ومراقبته لغيره، كما يتعلم من أخطائه.

وهذا بدوره يقودنا إلى الحديث عن طرابلس. وهي مدينة غير كوزموبوليتية، إلا أنّها مدينة قديمة تاريخياً، وعاصرت حقباً متنوعة. وهذا يعني أنّها، عبر التاريخ، ومثل المدن الأخرى، خلقت إيقاعها الخاص بها، وتميّزت عن مدن أخرى، مثل القاهرة وتونس والدار البيضاء..الخ

يمكنني هنا أن أدلو بدلوي في الموضوع، وأسجل ملاحظاتي الخاصة، ولا يعني ذلك أنها صحيحة أو خاطئة، ولا تزيد عن كونها انطباعات شخصية جداً.

الإيقاع اليومي الطرابلسي يقع داخل دائرة ايقاعات المدن الصغيرة وغير الصناعية. بمعنى أنّه يتميّز بالبطء و الدعة والاسترخاء والكسل. وكونها مدينة ساحلية متوسطية، حضرية وليس بدوية، يتسم ذلك الإيقاع بالدفء، ويتجلى ذلك في استرخاء ملامح الوجوه، ونعومة النبرات وتنغيمها عند الحديث. وعلو سمائها وصحوها، أغلب فصول العام، يجعل سكانها يميلون إلى التحدث بصوت عال، وهي سِمةٌ أعتقد أنّها متوسطية. كما أن قلة عدد سكانها يجعل أهلها ميالين إلى إطالة  النظر في الوجوه، والغريبة عنهم بشكل خاص، ويُكسب آذانهم حساسية عالية على رصد اللهجات واللكنات الوافدة من خارج المدينة، وتمييزها بهدف معرفة الجهة القادمة منها. وهي سِمةٌ تميّز المجتمعات غير الصناعية. العلاقة بين الطرابلسيين وكره الوقوف في طوابير ظاهرة عامة تطال كل الليبيين، بل حتى عواصم عربية وغير عربية، وقد يعود ذلك لأسباب تاريخية. وقرأتُ مرّة أن البريطانيين أضطروا مجبرين على تعلم الوقوف في طوابير، خلال فترة الحرب العالمية الثانية، لدى خروجهم للحصول على حصصهم التموينية الأسبوعية، من نقاط التوزيع  المخصصة لهم في مختلف المناطق والأحياء.

شاهد أيضاً

موسى يؤكد ضرورة سرعة ودقة إدخال بيانات الحجاج للمنظومة الإلكترونية

أكد منسق المنطقة الوسطى أ (مصراتة – زليتن – الخمس – مسلاتة) علي محمد موسى …