منصة الصباح

متاهات اللغة والعائلة

جمعة بوكليب

زايد .. ناقص

“أي شخص يتحدث الى أفراد من عائلته، يعرف أن المشاركة في لغة لا تعني المشاركة في اللوائح التي تنظم استخدام تلك اللغة.” هذا ما يقوله مُونك -Monk بطل رواية المحو-Erasure للأمريكي بيرسيفال إيفريت- Percival Everett

مُونك من عائلة زنجية أمريكية ميسورة الحال. ومونك ليس اسمه الحقيقي، بل الاسم الذي أطلقه عليه أفراد العائلة، وهو أصغر الاولاد، ومحاضر أكاديمي وكاتب وروائي، يقيم في ولاية أخرى بعيدة. وبسبب انعقاد ندوة علمية يأتي لنفس المدينة التي تتواجد بها أمه وأخته بعد وفاة أبيه الطبيب. وخلال حديث له، وجهاً لوجه، مع أمه العجوز المصابة بداء النسيان، يكتشف، من خلال حديثهما، أنهما وأن كانا يتحدثان بنفس اللغة، إلا أنّه يجد صعوبة في فهم ما تعنيه بكلامها. بمعنى أن ما تقوله أمه، ويبدو واضحاً له لغويا،ً يحمل في طياته أوجه أخرى لا يعرفها مونك، وتقصدها أمه، وهي معروفة لاخته والخادمة وصديقات أمه، وكل من يتشاركون الحياة في ذلك المنزل أو حواليه. لأنّهم، حسبما تبيّن له، هم من وضعوا نظم ولوائح تلك اللغة المشتركة. والأهم، أن تلك النظم غير ثابتة بل متغيّرة.

الفقرة بين هلالين، أعلاه، استوقفتني كثيراً، لدى قراءتي مؤخراً للرواية. كونها أرجعتني سنوات إلى الوراء، أي إلى الفترة الزمنية عقب خروجي من السجن. ثم بعد ذلك، مرة أخرى، عقب رجوعي من بريطانيا إلى طرابلس، للمرّة الاولى، بعد غياب ثلاثة عشر عاماً.

عقب خروجي من السجن،، كنتُ، في أحيان كثيرة، أتجاذب كثيراً الحديث مع المرحومة أمي، على وجه الخصوص، على أمل ملء الفراغات في ذاكرتي بما حدث من أحداث لا علم لي بها نتيجة غيابي. أبي رحمه الله كان لا يُعتمد عليه مطلقاً في هذه الأمور. وحتى إن كان يعرف بها، فأنت تحتاج إلى وقت طويل جداً لتتمكن من استدراجه إلى الحديث. وكان حين يكون حاضراً في جلساتنا أنا وأمي، يكتفي بالجلوس والتدخين والصمت. ولا يعلق على أي شيء. وإذا سئل عن أمر ما، يتمتم بكلام غير مفهوم. الأمر الذي أتاح الفرصة أمام أمي لتركب أعلى خيلها، وتمتلك كل الملهاد لنفسها. وكانت، رحمها الله، تتذكر كل شيء، وبالتفاصيل المملة. وتعيده أمامك مرّات عديدة، من دون أن تزيد فيه، أو تنقص منه، كلمة واحدة.

أغلب الأحاديث في بيتنا كانت تجري بين أمي وأختي. وكنت أجلس قريبا منهما، مثل أبي، ومثل أي أطرش في زفة. بمعنى أنني كنتُ أحرص على الاستماع، وأعرف اللغة التي كانا يتحدثانها، لكني مثل مونك، بطل رواية المحو، لم أشارك في وضع نظم تلك اللغة وقوانينها، وبالتالي لا استوعب ما يقصدان. الاكتشاف لم يكن آنياً. وكنتُ رغم حرصي على متابعة الحديث، أضيع في متاهاته لدى أول منعطف. تلك المتاهات المعتمة لا يعرفها إلا من كان يعيش في ذلك البيت أو حواليه. الفرق بيني وأبي هو أني كنت الغائب الحاضر، وكان هو الحاضر الغائب. لكن أمي وأُختي وبقية اخوتي وأولادهم الكبار كانوا يعرفون طرق متاهات لغة الكلام ومعانيها. الأمر الآخر، هو أنني لدى عودتي من بريطانيا، بعد غياب ثلاثة عشر عاما، اكتشفت أنني وقعت مرة أخرى في حبائل تلك المتاهة اللغوية. واكتشفت كذلك أن نظم ولوائح اللغة تغيّرت عما كانت عليه. لأن الواقع خارج البيت وداخله في عام عودتي من السجن إلى بيتنا، ليس نفس الواقع داخل البيت وخارجه في عام عودتي إليه من الغربة.

شاهد أيضاً

حكايتان (2)

زكريا العنقودي   1-رحم المنامات !!   لم يعش سوى لحظات..لكن بكاه الجميع ، وحين …