كأنّي هنا
محمد الهادي الجزيري
سيّدة فلسطينية في نبرتها وسلوكها وفي دمها ، يشي جديدها بتطوّر كبير على مستوى الكتابة الشعرية خصوصا كتابة قصيدة النثر ، فهي مجتهدة ومثابرة من أجل كلمة هادفة وإبداعية.. وقد أصدرت مجموعة جديدة بعنوان ” كأنّي هنا ” سأخوض فيها وأتنزّه في أدغالها .. ولنبدأ مع إيمان زيّاد هذه النزهة الخاطفة .. فمقالة مثل هذه تبقى محدودة ولا تكشف إلا القليل والقليل من متن غنّي بالإيحاءات والرموز وفيه ما فيه من غموض…
القصيدة الأولى ” طيرٌ يأكل صدري ” وهي عادة ما تكون توضيحية وذات دلالات بيّنة لتدلّ القارئ في أيّ اتّجاه يمضي ، ولكنّ إيمان وكعادتها مشاكسة وغامضة لا تعرّي أوراقها كاملة ، ولكني ظفرت بصيد لا بأس به من خلال هذه الأسطر التي اقتطعتها فهي تعبّر عنّي وعن آلاف القراء الآخرين ..، ففيها بوح باستحالة العيش على هذه الأرض فهي لا ترث إنساننا ..وإن تمّ ذلك فلفترة قصيرة ، على كلّ نقرأ لها هذه الصرخة وإن ختمتها بعدم العواء ..ففي هذا الكبح المعلن صياح شديد وفي هذا المنع رغبة ملحة للعواء :
” لا أرضَ ترثنا يا صديقي
لا وجهة
لا حبّا ،
الطير يأكل صدري إذ
يُغمسني بالخبز
ويكتم بجناحه فمي
فلا أعوي ..”
أذكر هذه القصيدة جيّدا ، كان ذلك منذ فترة زمنية قصيرة حين أرسلت إيمان زيّاد مقطعا صوتيا لبعض الأصدقاء وكنت محظوظا من ضمن الخلان الذين وصلهم ذاك المقطع ، وهذا نسخة ممّا كتبت لها :
” مدهش هذا شعر خالص ..تهانيّ الصادقة ..، هذه المرة وصلت إلى النبع ..مبروك أيتها الصديقة الجميلة …..سلام عليك ”
لقد وصلت إلى نبع الشعر الصافي ..، ففي قصيدة ” غير أن ” ، شذّبت لغتها وكثّفت وجعها ولم تتبع سوى خطاها ..فكان لها أصل الكلام ..، أنثى تعبّر لنا عن صوابها في امتحانها بحبّه ..فقط أصابها عطب ما ..ستشرحه لنا خلال القصيدة ، كنت أوّد نشر المتن الشعريّ كاملا لكن المقال الإخباري لا يتحمّل ذلك ..، هذا مقطع قصير من ” غير أن ” :
” لم أكن مخطئة حينما أحببتك
كنت أجري خلفك كي أفسّر القصة
حتّى أصابني العطب
لم أنتبه ، من فرط سعادتي بك
أنّ ثمة مسمارا يَنخر يساري
وأنّ تورّما ينقضّ على قلبي
هذا الكثير ..الكثير من الحبّ
كان اجتهادَ دفّة واحدة
ومع ذلك
لم أكن مخطئة ،
مثل آثار طفل على الشاطئ ، قبالة يافا
أوّل مرّة صافحتني ، تسرّب من بين أصابعي الرمل ..”
التسبيح مختلف ..فلكلّ منّا تسابيحه وعلاقته مع الأسمى والأوحد والأزليّ ..لكلّ منّا شكواه وتضرّعه لله ..، والشعراء أخلص الناس في مناجاة الخالق ، ها إنّ إيمان زيّاد تقصّ على باريها في وحدتها.. مأزقها الوجوديّ وتلوذ به فلا مخلّص للروح غيره ..، أنا كم أحبّ هذه النصوص التي تستصغر الإنسان في لحظة صدق وضعف ..لتَتشبثَ بالحقّ الدائم ..لا إله إلا هو:
” يا الله
في الغار أشعلت إبهامي
لأراك،
الروح في قبضتي ندىً يجفّفها الحنين
الجدران مدببةٌ مثل قنفذ قلق
جسدي ممرّ وعر
يفضي إلى عتمة
لا مخلّص يمدّ لي يديه غيرك
ولا كوّة في سقفي تخرجني من العالم ..”
اخترت لكم جملا نثرية طافحة بالشعرية ، صادفتها أثناء قراءتي لمجموعة ” كأنّي هنا ” ، لأبرهن لنفسي أوّلا ولكلّ خصوم قصيدة النثر أنّ الشعر متاح في أشكال الكتابة المختلفة ، فقط إذا توفرتْ المعاناة والصبر والموهبة والصدق ..:
” مبتسما كموزّع الورق
وهو يرمي أمام عيني
الخسارة ”
” مجرّد منفية أنا ، لم تسلم يدي من شوك الحنين
كرصاصة بك أستقرّ
وأصارع غاضبة خروجي من شتّى الجهات ”
” طفل أشجع منّي
حين قتلوه برصاصة ساخنة
ابتسم في وجه القاتل
وقف معتدلا
” لم تصبني ”
ثمّ اتّجه إلى الوميض
البرد مرعب هناك
والأبدان حجارة يسكنها الثلج
لكنّه أشجع منّي ”