منصة الصباح

هدنةٌ قصيرة

هدنةٌ قصيرة

جمعة بوكليب

زايد…ناقص

في اللغة الانجليزية يسمونها:”Lull “. وفي الاستخدام العسكري للكلمة، يقصدون بها فترة الهدنة القصيرة بين معركة وأخرى. وهي مهمةٌ، كونها تتيح للجندي المقاتل فرصة لالتقاط أنفاسه، والاستعداد لمواصلة القتال من جديد.

الحياةُ عند البعض منّا معاركٌ. ما أن تخرج من واحدة حيّاً، ولكن مُجهداً بالطبع، حتى تجد نفسك مضطراً للخوض في أوحال ومستقعات حرب أخرى. وليس أمامكَ من مفرّ سوى القتال، ودائماً بهدف الدفاع عن نفس لوّامه.

لا أعتقد أن التعريف أعلاه يلاقي قبولاً لدى الجميع. فنحن نحبُّ أن نُعرّف الحياة وفقاً لظروفنا وأحوالنا. وظروفنا وأحوالنا كثيرة. وهي، على أي حال، مختلفة وإن تشابهت ظاهريا. فهناك منّا من لم يكن، طوال حياته، في حاجة إلى خوض معركة، لأن معاركه تخاض نيابة عنه. وهناك منّا من يعيش حياته، طولاً وعرضاً، غير مبالٍ ولا مهتم بما يجري له، أو من حوله. لكن للبعض الذي أنتمي إليه،على الأقل، فإن الحياة معارك لا تتوقف. وهي معارك ضارية. وضراوتها تختلف من معركة إلى أخرى. الأمر يتوقف على الظروف المحيطة، وعلى الاستعداد. إذ كلما كان المرء مستعداً لقتال، كان بإمكانه دوماً الدفاع على نفسه بشكل جيد. وقد يكون المبادر باعلان الحرب. لكن هناك معارك تُفرض عليه قَسراً، ويجد نفسه مضطراً لخوضها ومن دون استعداد. وفي تلك النوعية من المعارك، يكون عادة عرضة للاصابة بجروح، قد تسبب له إعاقة نفسية أو بدنية، وقد تؤدي به إلى تخوم الجنون.

لكن المعارك ليس موضوعنا في هذه السطور، بل فترات الهدنة القصيرة بين معركة وأخرى. تلك الفترات القصيرة مميزة، كونها تمكننا من إعادة التفكير في كثير من الأمور. معركة الطلاق، على سبيل المثال، من أمرّ المعارك التي يخوضها المرء. وعادة، يخرج منها مصاباً بجروح، قد لا يشفى منها. ولذات السبب، يحتاج إلى فترة هدنة قصيرة لتجميع ما تشظى من حياته، كقطع زجاج، ومحاولة بناء حياة جديدة. وربما الذين منّا خاضوا مجبرين تلك النوعية من المعارك، يدركون المغزى المقصود. والذين منّا نجوا من خوض تلك المعركة، قد يشعرون بالتعاطف نحو من خاضوها، لكنهم يظلون في منأى من استيعابها، والاحاطة بتفاصيلها المؤلمة والمحزنة. وفهمهم يتوقف عند تعاطفهم، من مسافة، مع ضحاياها. وذلك ليس ناجماً عن لا مبالاتهم، بل لانشغالهم كذلك بخوض معارك من نوعيات أخرى.

المرءُ منّا، كذلك، في حاجة إلى هدنة قصيرة، لدى خروجه مهزوماً من معركة الحبّ. وهل الحبُّ معركة؟ سؤال مشروع. ورأيي الشخصي، الحبُّ أهمُّ المعارك. وويل للمهزومين. و لعلَّ تلاشي الحبّ هو المعركة الوحيدة، التي تنتهي بخسارة الطرفين. النصرُ المأمولُ يكون في دوام ارواء الكينونة الانسانية، من مياه نهر عذب لاينضب. لكن ماء ذلك النهر قد يحدث وينزح فجأة، ويختفي كلية. ويجد المرءُ نفسه تائهاً في صحراء، من سراب ورمل وشمس حارقة، وليس له سوى تحمّل قسوة نار العطش والوحشة والوحدة. والنّجاةُ من الموتِ، لا تكون إلا بالعثور على نهر الحبّ ثانيةً. الأمرُ الذي يحوّله إلى فريسة سهلة لخداع السراب. والوقوع في أول فخاخه في الطريق. وكان أفضل لو أنتحى جانباً، وألتقط أنفاسه واستجمع قواه. لأن معركة العثور على الحبّ تتطلب منه أن يغلق صفحات الماضي، ويبدأ يتعامل مع الواقع بعينين مختلفتين. وليس أمامه سوى التريث، قبل النهوض ومحاولة مواصلة مشوار آخر لارواء ظمأ روحه. ولأن ذلك النهر مراوغٌ وماكر، تبدوإمكانية العثور عليه ممكنة وسهلة. وفي الواقع الفعلي، قد لايجده ثانيةً مطلقاً.

شاهد أيضاً

اللي تعرف ديته.. اقتله

مثل ليبي يصف بعضا من الواقع الذي نعيشه بإرادتنا أو فرضًا علينا، فمنذ أيام ضجت …