بالحبر السري
…….
بقلم: علي الدلالي
راهنت فرنسا بقوة على الحل العسكري في ليبيا لحسم الصراع على السلطة فيها وفق السياسات التي رسمها وزير الدفاع الفرنسي الأسبق، جون إيف لودريان، في عهد الرئيس فرانسوا أولاند (2012 – 2017)، بالتنسيق مع دولة الإمارات، على خلفية عقود عسكرية أسالت ولا تزيد الكثير من الحبر والتساؤلات المشوبة بالفساد، وحمل ذلك الرهان في حقيبته عند انتقاله لشغل منصب وزير الخارجية (2017 – 2022) في الخمسية الأولى للرئيس الفرنسي الحالي أمانويل ماكرون.
عند بدء الحرب التي شنتها قوات المشير خليفة حفتر للسيطرة على المنطقة الغربية والعاصمة طرابلس عام 2019، كانت فرنسا تعمل على نفس الخطوط التي تتحرك عليها روسيا الإتحادية، التي راهنت، هي الأخرى، ولا تزال، على حسم الصراع على السلطة والنفوذ في ليبيا من خلال الحل العسكري، رغم ما تروج له باريس وموسكو من دعمهما المزعوم للحل السلمي في ليبيا والدفع باتجاه صناديق الإقتراع.
تأكد التدخل العسكري الفرنسي لتأجيج النزاع المسلح في بلادنا من خلال إقرار باريس على لسان وزارة جيوشها، وقتذاك، بأن صواريخ “جافلين” التي تم اكتشافها في قاعدة تابعة لقوات حفتر في غريان بعد أن دُحرت منها، عائدة للجيش الفرنسي، وإقرارها أيضا بنشر وحدة من القوات الخاصة الفرنسية في ليبيا لتزويد قوات حفتر بمعلومات استطلاعية، إلى جانب مقتل ضباط فرنسيين في تحطم طائرة عمودية في بنغازي، ناهيك عن ضبط عناصر من القوات الخاصة الفرنسية الفارين من ليبيا من قبل السلطات التونسية في معبر رأس اجدير الحدودي، في حين كانت روسيا تعمل بقوة فوق الأراضي الليبية من خلال مجموعة “فاغنر” العسكرية، ونشرها طائرات حربية من طراز ميغ 29 في قاعدتي الجفرة والقرضابية في سرت.
كان التنسيق في الهدف من الحرب في ليبيا بين فرنسا وروسيا واضحا وتمثل في تمكين المشير خليفة حفتر من السيطرة على السلطة المطلقة في البلاد، إلا أن روسيا كانت تعمل في نفس الوقت على تفكيك التواجد العسكري الفرنسي في منطقة الساحل الأفريقي – الذي انطلقت رياحه من مالي ثم أفريقيا الوسطى، والأسبوع الماضي جاء الدور على بوركينا فاسو التي طالبت برحيل القوات الفرنسية – وهي من مناطق النفوذ التقليدية لفرنسا في القارة، بعد أن تمركزت في قلب ليبيا على تخوم تلك المنطقة، في إطار سياسة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الرامية لاستعادة المجال الجيواستراتيجي الذي ضاع بتفكك الإتحاد السوفييتي.
تعمل المخابرات الفرنسية منذ عام 2011 بحرية في شرق ووسط وجنوب ليبيا وراقبت دون شك تمدد الوجود العسكري الروسي من خلال مرتزقة “فاغنر” الروسية، ومن هنا برزت تساؤلات ملحة في فرنسا نفسها بشأن دور عراب السياسة العسكرية الفرنسية في ليبيا، الوزير لودريان، الذي – بحسب تلك التساؤلات – إما أنه لم يُدرك أن العالم يتغير وأفريقيا تتغير معه، أو أنه عميل نائم منذ حقبة الإتحاد السوفييتي على خلفية روحه الإشتراكية.
تتمركز شركة فاغنر العسكرية الروسية، أو ما بات يُعرف بجنود الظل، اليوم في أربع دول أفريقية معلنة، هي ليبيا ومالي وأفريقيا الوسطى والسودان، في حين تؤكد المخابرات الأمريكية أن “فاغنر” تتواجد في 10 دول أفريقية على الأقل وتنشط تحت مسميات عدة سواء كشركات للتعدين والبحث عن الذهب والماس، أو كمدربين عسكريين، أو كشركات متخصصة في الحرب السيبرانية.
تعود روسيا للتموقع في القارة الأفريقية من جديد انطلاقا من القواعد التي أنشأتها في وسط وجنوب ليبيا، وقاعدتها البحرية في بورتسودان (السودان) على البحر الأحمر، وتُجبر فرنسا على التقهقر بعد تصاعد حملات العداء العلنية للوجود العسكري الفرنسي في عدة دول أفريقية، ومهدت موسكو لهذه العودة إلى القارة السمراء التي تتنافس فيها وعلى مواردها اليوم قوى دولية وإقليمية منها الصين والولايات المتحدة والهند وتركيا، بسلسلة من 50 اتفاقية وعقود معلنة مع دول أفريقية بلغت حوالي 20 مليار دولار حتى الآن.
الشيء الذي نتوقف عنده باستغراب أمام هذا التقهقر الفرنسي هو أن الدول الأفريقية التي طالبت بإنهاء التواجد العسكري الفرنسي وأوقفت الإتفاقيات العسكرية مع باريس، لتربط قنوات تواصل عسكرية مع موسكو، تنتشر فيها الجماعات المسلحة المتشددة من بينها (داعش) وهي الجماعات التي جاءت القوات الفرنسية لمحاربتها.